التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:08:26 غرينتش


تاريخ الإضافة : 07.04.2009 09:02:30

حاشية الهامش الأول

بقلم  الأستاذ بونا الحسن - محام

بقلم الأستاذ بونا الحسن - محام


ربما أثار ما كتبت في الحلقة السابقة بعض التساؤلات، منها ما يتعلق بقضية سابقة تحدثت عنها عرضا ولا أريد العودة لها، وإن لم يكن ثمة مانع حين تكون لذلك حاجة، ثم إن شعوري أنني في ما كتبت لم أشف غليل الباحثين نظرا لعدم التعمق في المواضيع التي لم يكن الوقت متسعا لشرحها، ولم أكن عند رغبة القارئ الباحث عن خلاصات جاهزة، وبين هذا وذاك أريد لفت الانتباه أن هذه طريقتي في الكتابة والتحليل والتفكير وقد أجد صعوبة في الحيدة عنها، وأذكر أن الهدف هو التركيز على دراسة المعطيات وترك القارئ يتأمل معي إلى حين أصل لاستنتاجات متأنية.

قد توقفت في الحلقة السابقة عند حدود مصطلح الديمقراطية وبعض من دلالاته، ولكن مستجدات ألحت على ذهني و تطلبت أن أقف معها وقفة سأحاول ألا تكون أكثر من حدود الحاشية، وذاك فن معروف لدى الدارسين لشراح الشيخ خليل بن اسحاق المالكي، وعلى طريقة المتنبي حاولت إبعاد واستبعاد هذه الحاشية السمراء المكتوبة باقلام الصنوبر كما يقولون، ولكنها تسللت وسط الزحام، بسبب توجهات أطلت من جديد فاسحة المجال لتفريخ براثين من الفرقة سبق أن تطوعت مجموعة وسخرت لها من الحبر واللسان ما هو كفيل بترك آثار ليست لها عوائد يمكن أن تساهم في التنمية التي تعتبر مطلبا اجتماعيا لدى الجميع وعمودا فقريا لبعض التوجهات الفكرية.

إن الأزمات التي يمر بها العالم الرأسمالي اليوم لها جذور ضاربة في بنيته الإيديولوجية والمالية، أو الاقتصادية بصفة أشمل، ولعل الأخصائيين يجدون لشرح ذلك سبيلا يعود بالنفع على المبهورين بذلك النظام.

أما محل التنبيه هنا، فهو أن الايديولوجيات التي أعطت أحداث القرن الماضي انطباعا بأنها أخذت طريقها إلى الزوال، استعادت جزئا من أمجادها وآمالها، واستعاد مفكروها - وللحق منهم أصحاب كفاءات ونوايا حسنة - منطقهم ونشاطهم مبشرين بعودة الوعي على طريقة توفيق الحكيم في خطيئته المشهورة بنفس العنوان، وسواء كانت هذه العودة بالنسبة لنا بريقا أو برقا خلب، لا أراها مبررا لاستعادة النزاعات والنزعات القديمة التي لم تعد من متطلبات واقع الساحة؛ ومع ذلك فإن التاريخ سياق له ذاكرة ووعاء ووثائقه محفوظة، ودون كثير من المجاملات وفي نفس الوقت مع الاحتفاظ بخط التزام التحفظ الذي رسمته لنفسي، تفاديا للوقوع فيما أعيب على غيري، لا بد من التنبيه على أن نذر هجمة أراها على طرف لسان هنا وفي قلم هناك وفي تصريح لهذا المسؤول عن براءة وذاك المتموقع عن دراية بدأت تمد خيوطها أو سهامها مستفيدة من الواقع الجديد لتنال من أهم انجاز سياسي تحقق في الحقبة الأخيرة، وتولت جماعة محكمة التنظيم لها خبرة مشهودة في حبك الشائعة وتسريبها، إشعال إسفين الفتنة واطلاق شائعات مفادها أن التحالف الشعبي التقدمي، الحزب الذي يضم حركات اجتماعية ذات بصيرة تراعي خصوصية البلد وخصائصه الحضارية، قد انقسم أو على وشك ذلك. إن الأقوال والتصرفات في السياسة قليلا ما تكون عفوية؛ والمتتبع للساحة، أيام مؤتمر الحزب الذي انضمت فيه حركات اجتماعية ذات مطالب مشروعة، متسقة مع النهج والتفكير الموثقين بوثائق الحزب الذي وقع عليه الاختيار المذكور، لا بد أن يلاحظ سيل التحاليل و التصريحات والجهود المبذولة قصد وأد هذا المشروع الحضاري المنقطع المثيل في البلد؛ ورغم ذلك بقى معلما رائدا وسط كثير من الانكسارات والانحرافات ذات الأجندة المستفيدة من أنماط وسياقات فكرية ذبلت بموجب إقحامها بشكل قسري في بيئة غير بيئتها. ولكن ما يستحق الاستدراك هو أن بوادر تراجع النظام الرأسمالي رافقتها إطلالة مزهوة للحركة الماركسية العالمية أو اليسار كما يحبون ان يسمونه، وتفاديا للدخول في تفصيلات ليس هذا موقعها يمكن اختصار القول ان كلا النظامين له مزاياه وسلبياته، والأكيد أن منظري الاتجاهين استبعدونا، وعليه لم يكن المقاس متسعا ليأخذ في الحسبان واقعنا بمختلف تجلياته الفكرية والاقتصادية والدينية. فالماركسية على سبيل المثال، مع احترامي لمن يتخذها نهجا فكريا تصورت أن قيام الاشتراكية، أو الشيوعية، لا بد ان يكون في البلدان التي وصلت مستوى من التقدم الاقتصادي يخولها الأخذ بذاك النظام وتطبيقه بكل مزاياه. ويأخذ مفكر كالجابري على لينين انه حاول، عبثا، تطبيق الماركسية في الروس في وقت لم تكن الشروط قد اكتملت ولا الظروف نضجت لترى تلك النظرية النور في بلد لا يعتبر الحلقة الأقوى ساعتها، وعليه فإن الاجتهاد غابت عنه بعض الشروط لتحول دون تأدية فتوى لينين نتيجتها المرجوة. وقد لاحظ المفكر الفلسطيني الأشهر ادوارد سعيد، في كتابه حول الاستشراق، أن ماركس كان ينظر لمجتمعات غير مجتمعاتنا، وقد اثبت المرجع المذكور الرصين قولة ماركس الشهيرة "مثلوهم إنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم " وذلك على كل حال لا ينقص من شمولية رؤية هذا المفكر، ولكنها كأي عمل إنساني تظل محكومة بقواعد وحدود يجب أن لا تتجاوزها. وليس المقصود عدم الانفتاح على الفكر الإنساني بصفة عامة، وما يتعاطف مع الفقراء منه بصفة أخص.

ولكن ما أردت الوصول إليه هو صعوبة نقل ذلك الفكر بحذافيره لبيئة مغايرة للبيئة التي ترعرع و تربى فيها، ولم يكتب له أن يبلغ سن الرشد، بسبب الظروف التي حاصرته في عقر داره، وقد استغربت قولة احد المفكرين العرب اليساريين حين رأى الروس تتهاوى امبراطوريتها الماركسية: كتب علينا نحن العرب أن نعيد تعليم جيل جديد من الروس لكي تنهض الماركسية من جديد ... وكان ذلك في الندوة الشهيرة التي عقدت أكاديمية الاقتصاد لتشرح فيها الروس لحلفائها الاشتراكيين ما هي عليه مقبلة من متغيرات فرضتها تفاعلاتها الداخلية. وانبرى مفكر ثاني في نفس الحلقة ليلفت انتباههم إلى أن ذلك سيكون فيه ظلم كثير لأنفسهم ولشعوب طالما عولت عليهم ... وانبرى المرحوم حافظ الأسد ليحاول إقناع الروس عدم تخليها عن دورها في الجوانب الأخرى المتعلقة بموقعها من الصراع الدائر على الكورة الأرضية، لكن الحقائق على الأرض كانت أقوى من كل تنظير ...

وبدأت الأدبيات التي لا أريد أن أطيل الحديث فيها تتلمس الأعذار لأسباب فشل تنبؤات الماركسية، وقد يكون ذلك مفهوما عندهم، ولكن لا مبرر له عندنا. إن إعادة الأمل لهذا الفكر الذي يحتوى على كثير من الايجابيات، لدرجة أن المفكر القدير محمد عمارة يعتبره أداة لا غنى عنها، لفهم بعض من جوانب حركة التاريخ، تعتبر شيئا مطلوبا، ولكن مصدر تحفظاتي هو محاولة اقصاء و استدراج الغير قصد انفراط العقد الذي يلف تصورا منتظما يعتبر ركيزة اساسية لبناء مستقبل هذا البلد الذي يبدو أن العواصف غير بعيدة عن شواطئه. ان تراثنا العربي والافريقي يجب ان يظل منفتحا ومستعدا للاستفادة والافادة كي يظل قادرا على مواكبة التحولات الكونية الجارية، ولكن الشيء المطلوب التفادي هو محاولة اعارة تجارب الغير ورشدهم الاجتماعي، فالظواهر الإجتماعية، وهي اهم عناصر الحضارة، لا تقبل تحليلا ميكانيكيا عاريا من تركيبتها غير مراع خصائصها الدينية؛ وأتصور أن الظروف أتاحت لغيرنا أن يتأمل ويدرس ويحب عناصر القوة والجمال في حضارتنا ولعل المستشرق الفرنسي جاك بيرك في كتابه انعتاق العالم يكون أكملَ القصْدَ لو وجه لنا الكلام مع بني جلدته وذلك حين يقول: إن الحضارة العربية ليست متخلفة ولكننا تخلفنا عن حبها و دراستها، وهو محق فيما قال إذا أدركنا أن الإسلام هو روحها. وبعد هذه الملاحظات أعود دون اسئذان للجانب المتعلق بالرأسمالية ومنظريها ولكن الحديث قد يطول إذا بدأنا تحليل أنماطها وطرق تعاطيها مع الانسان وتكوين مؤسساتها، وبناء على هذا المعطى سنقتصر على ضرب المثال بآخر مرحلة من التنظير وصلتْ إليها، وهي ما يعرف بالرأسمالية الجديدة، وهنا نحتاج وقفة تأمل لايشترط ان تطول لأني اعرف كسل القارئ، خلاصتها أن البلدان التي تنهج هذا النهج أعطت للفرد دورا

تجاوز الحدود التي عادة ما تكون محفوظة للدولة، وهي بعبارة أوجز تجعل الدولة عبارة عن "شركة مساهمة" وأعضاء الحكومة فيها هم عبارة عن المساهمين أو مجلس الادارة، وهذا النمط قد يصلح إلى حين لدول عرفت استقرارا ومؤسسات لها خصائصها وبنيات اجتماعية رضيت بالتعايش وفق صيغ استقرت في الوجدان و الضمير بشكل جعلها عقيدة عند أصحابها، لها حدود يجب أن تظل مأمونة، و لها نظام يجب أن يظل تحت سيطرة محمية بنظام اجتماعي نابع عن قناعة مشتركة مفادها أن الجميع يرى في هذه الصيغ حَكَمًا ومرجعًا لا يجوز المساس به.

إن الرجوع للفقه وللفكر السياسي العربي والاسلامي بصورة عامة يبين أن الجانب النظري و العقدي عندنا ارسخ و أغنى من ما هو موجود عند غيرنا ولكن ظروفا تاريخية خلقت انفصاما بين المتاح وما يجب أن يكون؛ وتلك مفارقة تستحق التأمل من ذوي الاختصاص، وللتدليل فان هذه الحاشية قد تأخذ حيزا من هذه الهوامش، فمفهوم الدولة عندنا له دلالة تستحق التوقف، ولكننا سنمر عليها مرورا يثير لدى القارئ شهية البحث و التأمل أكثر مما يعطيه معلومة جامعة مانعة، فالدولة تعني فيما تعني عندنا " النوبة "، فهي من " دال " "يدول" "دولة" وعندئذ يكون المضمون المفهوم من المصطلح هو "نصيبنا"، أي "نوبتنا"، أي فترتنا من الحكم، وفي هذا الاتجاه تتداخل ظلال المعاني مع دلالات المصطلحات و رواسب الموروث الحضاري بشكل يخفي الرؤية عن الباحثين، وذلك قد يدفعهم لتطبيق مناهج بشكل آلي على واقع أو وقائع مختلفة المضامين والسياق. فالدولة في النظام الرأسمالي كما أسلفنا مختلفة في دلالتها العميقة عن الدولة عند العرب في دلالاتها البعيدة، فنظام " الحكم الرشيد" عندهم، على سبيل المثال، ليس عندنا ما يمنع من الاستفادة منه، ولكن ذلك يتطلب ملاحظة الفوارق بين "شركة مساهمة" هَمٌ أهلها الأول هو الارتباط بالربح و الخسارة وبين " دولة " أو نوبة أو نصيب تتداخل فيه كل الحقوق الموروثة من أحقية وشفعة وسيف وقلم وقطعة أرض كان يرعى عليها جزء من الماشية.

وفي سياق الفوارق استوقفتني ملاحظة أبداها الأستاذ الخليل النحوي في مقاله الرصين و بلغته الجميلة حين ذكر انه ذهب " مستاء أو مهموما أو حزينا " لا أذكر تحديدا، من كون إنسان في مستوى المسؤولية يبدا عملية تتعلق بمصير امة لا يستطيع توقيفها، وقادتني نفس الملاحظة لحديث بين محمد حسنين هيكل ووزير الخارجية الامريكي كيسنجر حين قال الاخير للأول:

لا تكلمني عن أمة عربية أنا اعرف وأفهم دولة لها حدود، ولا تكلمني عن الماضي والتاريخ: التاريخ بالنسبة لي يبدأ من الآن.

كلا الرجلين ينطلق من واقعه، وكلاهما يدرك أن الآخر يقف في موقع مغاير للموقع الذي ينطلق منه الثاني، فهيكل منزعج لانه ينتمي لحضارة لها ما لها من تراكمات في مختلف المجالات لدرجة أن كاتب فرنسا الاكبر اندرى مالرو قال انها هي التي اخترعت الابدية، والثاني ينطلق من حضارة تدل شواهدها على انها أبادت الهنود الحمر، وتسعى جاهدة للتخلص من كثير من عقدها.

أعود لسياق الحديث قصد محاولة الاستفادة منه لنتبين أن الرأسمالية والماركسية مع فوارق التوجه، لكل منهما ظروفها ونشأتها وبيئتها وإن ظل كل ما هو إنساني قابل للنقل والتطويع إذا توفرت الإرادة والبصيرة. إن غياب الرقابة والتمحيص والتدقيق يجعل الفئات المستهدفة ضحية الواجهات الإعلامية والزخرف العقلي الذي يصور الأكاذيب حقائق والأضرار منافع، وذلك يتطلب وقفة على طريقة الذبياني: عَدِّ عن كثير مما تسمع منسوبا لفوائد العولمة والاستفادة من تعميم نماذجهم فهي تعني فيما تعني وجود أسواق ويد عاملة لشركات المساهمة بالمعنى "الجابري" للمصطلح وليس القانوني. وقبل مغادرة هذه المقارنة السريعة بين"الدولة" و" الشركة " أرى مع المفكر الكبير أحمد صدقي الدجاني أننا نحتاج مدرسة عربية في علم السياسة ذلك لأن هذا الأخير ليست له قواعد ثابتة صالحة في كل مكان، فمصطلح الدولة الذي أشرنا إليه بشكل خاطف يحتاج لمعرفة دلالات مضمونه أن نتتبع ببطء ما يجره من ميراث بكل سلبياته وايجابياته، وموقعه ضمن مخزوننا الحضاري، لنستعير له من غيرنا ما يمكن أن يقوم عليه كبناء يتماشى ويستجيب لمتطلبات ما وصلت إليه الحضارة البشرية من رقي، وَوَصْلَهٌ بالجوانب الايجابية من ذلك.

وبلاد شنقيط كجزء من هذا المحيط لا تشكل استثناء من هذا السياق العام للتحليل ولعل ذلك هو ما أدركته النخب المكونة للتحالف الشعبي التقدمي بعد دراسة معمقة للواقع والوقائع، وهو كذلك ما أدركته الجماعات الصادقة بحسها الصافي، ليصبح هذا الحزب الصخرة التي تتكسر عليها كل بوادر الفتنة والفرقة المطلة بشراسة على بعض الألسنة أو المختبئة بمكر في بعض الأذهان؛ ولكن الغريب أن أنيابا كشرت عن نفسها وآلت عليها أن تفكك هذا "التحالف" يوما ما بدلا من مد يد المساعدة وإضفاء الشرعية عليه لكي يؤدي دوره الاجتماعي كاملا رغم صعوبة الظرف، وما تفرزه الأيادي الصهيونية التي امتدت لتبقي موريتانيا في موقعها كحلقة أضعف متخذة لذلك مدخلا يتعلق بصميم البنية الاجتماعية، وفي هذا الإطار أحيل للحلقة السابقة لكي لا أعيد تكرار أهمية هذا البلد بالنسبة لهم، ومع ذلك لا بد من الإشارة، وأنا أثناء تحرير هذه السطور، لرأي أبداه لي من هو أقدر على التحليل وأكثر إدراكا للواقع خلاصته أنه فهم من الحلقة الأولى معلومات مفادها أن تجميد العلاقة مع العدو الصهيوني أصبح نقطة محورية في ما يجري الآن، وكان ردي لا يحتمل اللبس، وهو أن ذلك أوضح من أن يكون استنتاجا، والرمية حين تكون في الصميم قد يكون راميها مهم، ولكنها تبقى أكثر أهمية لأن الأثر المادي الذي سوف تخلفه ستكون له انعكاسات لا شك أكثر تأثيرا وجلبا للانتباه، وربما تستوقفني هذه الملاحظة لتكون موضوع حاشية قبل استئناف النظر في الهوامش التي بدأت في الحلقة الماضية.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!