التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:08:22 غرينتش


تاريخ الإضافة : 10.05.2009 14:50:25

مالك شنقيط.. ما تركت بعدك مثلك!

عبد الله أحمد منيا ـ كاتب موريتاني مقيم في السعودية
[email protected]
كانت وفاة الإمام بو الداه بن البصيري ـ رحمه الله ـ صدمة قوية ، وجرحا عميقا أصاب كل الموريتانيين، من كل الطبقات، والفئات، بل أصاب كل من عرفه أو سمع به من المسلمين، مع أنها لم تكن مفاجئة؛ حيث كان مريضا منذ سنوات.ولكن محبة الشيخ ومنزلته في قلوب الناس، جعلتهم يضنون به عن الموت، ويودون التمتع به إلى حين، وقد هبت الجماهير هبة عفوية فازدحمت الشوارع، واكتظت الأزقة المحيطة بمكان الصلاة على الشيخ. ولسان حال هؤلاء يردد مع الشاعر قوله:
الله أكبر أي ظلٍّ زالا***عن آمليه وأيّ طود مالا
ولا غرابة في ذلك؛ فقد عرف الناس الإمام بوالداه في الجامع خطيبا ناصحا، وفي المحضرة معلما مربيا، وفي الأزمات طودا شامخا، ثابتا على الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وفي النوازل إماما مجتهدا مجددا، مستوعبا لقواعد الشريعة ومقاصدها.
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
كان رحمه الله يتمتع بمحبة الجميع ومودتهم،والقبول بين الناس، ولعل ذلك من بركة علمه وإخلاصه وعبادته، فقد ورد عن بن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} قال : محبة في الناس في الدنيا .وعن الضحاك قال : محبة في صدور المؤمنين.وروى مالك في المطا والبخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ قَالَ لِجِبْرِيلَ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ.
ولقد زاد من شدة وقع وفاة الئإمام بوالداه أنها كانت بعد وفاة الشيخ محمد سالم بن عدود بأسبوع واحد فقط، وهما ـ رحمهما الله:
قمران في أُفُق النَّهار، وفي النَّدى*** بَحران، ذا طامٍ وهذا مُفْعَمُ
يَتَبارَيان فضا ئلاً وفواضــــــــلاً ***وكلاهمــــا فيما أَحَبَّ مُحَكَّمُ
فنسأل الله أي يأجرنا في مصيبتنا، وأن يخلفنا خيرا منها.

مالك شنقيط:
لقد برز الإمام بوالداه بن البصيري مع بداية نشأة الدولة الموريتانية الحديثة، فكان المرجع العلمي المؤتمن عند الجميع؛ مفتيا، ومحررا للمسائل،وموجها للدولة، والشعب. وكان فيه شبه واضح بالإمام مالك بن أنس رحمه الله؛ من حيث علمه، وورعه، واهتمامه بالسنة وذبه عنها،واعتداله في تعامله مع الواقع وتمسكه بالتراث، فكان بحق النجم ، كما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
وكأن الذهبي ـ رحمه الله ـ يصفه بقوله: وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره: أحدها طول العمر وعلو الرواية، وثانيتها الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، وثالثتها اتفاق الأئمة على انه حجة صحيح الرواية، ورابعتها تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن، وخامستها تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده.
ويذكر تعامله مع الحكام بعزة وإباء ـ مع زهده في ما بأيديهم ـ ما ذكر عن مالك رحمه الله ـ وقد قدم المهدي المدينة ـ وبعث إليه بألفي دينار أو ثلاثة،ثم أتاه الربيع فقال: إن أمير المؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة السلام، فقال مالك: قال النبي صلى الله عليه وآله: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والمال عندي على حاله، "مازال بصرته".
أبو الدعوة والدعاة:
كان الفضل للإمام بوالداه في البذرة الأولى للصحوة الإسلامية الحديثة في موريتانيا، فهو الذي زرعها وتعاهدها بالرعاية، وآزرها حتى استغلظت واستوت على سوقها، فقد كان طلابه الذين تربوا على يديه هم حملة هذه الدعوة، وكان لوسطيته واعتداله ، ونزعته التجديدية الإصلاحية الشمولية، إسهام كبير في تأسيس وإنضاج فكر حملة الصحوة الإسلامية، مما حفظها ـ بإذن الله ـ من الانحراف عن الجادة ذات اليمين، أو ذات الشمال.
وكان ـ رحمه الله ـ الحصن الحصين، والقلعة المنيعة التي يتحصن بها الدعاة من سياط الحكام ، وحملات التشويه؛ يدافع عنهم في خطبه، ودروسه، ويزكيهم في المحافل العامة،ومواقع صنع القرار في الدولة، ويكرر كلمته المشهورة: (أنا أبو الدعاة).
وقد كان كذلك؛ أبا لهم جميعا بغض النظر عن مشاربهم الفكرية، وطرائقهم الدعوية.
وعندما دخل الإسلاميون السياسة وأنكر عليهم بعض الناس، صدع بقاعدته المشهورة: (دين بلا سياسة لا يستقيم ، وسياسة بلا دين عار الدنيا ، ونار الجحيم).
طود شامخ:
كانت علاقة الإمام بوالداه بالحكام ورجال الدولة، علاقة عزيز النفس كريم الطبع شفيق القلب، ليس فيها تكلف ولا تملق، كما كانت مسافته من الأحزاب والتنظيمات السياسية مسافة متساوية، لم يستطيعوا ـ مع ما بذلوه من جهد جهيد ـ أن يوجهوه قيد أنملة، بل استمر في ممانعته ، واستقلاله حتى توفاه الله شهما أبيا ، وظلا ظليلا يستظل به الجميع.
فلئن بكيناهُ فحُقَّ له البكا*** ولئن تركناهُ فللكبــــــر
فلمثله جرت العيون دماً***ولمثله جمدت فما تجري
من يخلف الشيخين؟
إن وفاة شيخين عظيمين من أمثال محمد سالم بن عدود و بوالداه بن البصيري مصيبة عظيمة؛ حيث لم يتركا على الأرض مثلهما، وليس لنا أن نقول إلا ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه، حين مات زيد بن ثابت رضي الله عنه: "اليوم مات حبر هذه الأمة وعسى الله أن يجعل الله في ابن عباس منه خلفاً" .
إن العلماء الذين تخرجوا على يدي الشيخين كثر ولله الحمد، وهم قادرون على قيادة الأمة، والأخذ بيدها، فهم كما الشاعر:
بقيَّة أقمار من العزِّ لو خبَتْ***لظلَّتْ معدّ في الدُّجـى تتسكع
إذا قمر منها تغوَّرَ أو خبَـــا***بدا قمرٌ في جانبِ الأُفقِ يلمعُ
فلا بد أن يتصدوا لسد هذه الثغرة، ويتقدموا ويتصدروا لهداية الأمة وتوجيهها، وقد أتيح لهم في الوقت الحاضر من الوسائل التقنية المعينة على الاتصال والتعليم، ما لم يتح لسلفهم، فكانت المسئولية عليهم أكبر، والآمال المعقودة عليهم أعظم.
نسأل الله أن يرحم السلف، ويبارك في الخلف. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
سقى الغيثُ غيثاً وارَتِ الأرضُ شَخْصَه***وإن لم يكُنْ فيه سحابٌ ولا قَطْرُ
وكيف احْتِمالي للسحابِ صنيعــــــــــــــةً***بإسقائها قَبْراً وفي لَحْدِه البَحْــــــر.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!