التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:08:22 غرينتش


تاريخ الإضافة : 18.05.2009 13:47:50

مجانية الموالاة في موريتانيا الأعماق

مجانية الموالاة في موريتانيا الأعماق: الحوض الشرقي نموذجا
محمد الأمين ولد سيدي مولود
[email protected]

في هذه الشذرات سأحاول أن أقف على نموذج طريف ونادر من ممارسة "السياسة" في ما يسمى موريتانيا الأعماق مبرزا طرفي مجانية الموالاة عند القوم من جهة وتهميش السلط لهم ورأي النخبة الجادة لهم من جهة أخرى. وفي هذا الصدد أريد أن أوضح أنني لا أكتب لأتبنى موقفا معينا من الأزمة الحالية بقدر ما أريد توضيح حالة معينة وتحليلها.

وقبل البدء أود أن أعطي تعريفات خاصة "لموريتانيا الأعماق" كما أراها، وكما أعتقد أنه الواقع لا لبس فيه، ثم أحاول حصر المواصفات جغرافيا قدر الإمكان تاركا الحرية للقارئ للحكم على ذلك :
ـ "موريتانيا الأعماق هي خزان انتخابي يطبعه الجهل المركب والفقر المدقع وغياب أي نوع من مظاهر اهتمام الدولة وتسود فيه الموالاة المتعصبة للقبيلة أولا ـ وخصوصا لمفسديها ـ ولمن يستولي على السلطة بأي طريقة بغض النظر عن مواقفه وتاريخه ثانيا ".

ـ "موريتانيا الأعماق هي مناطق وكتل وتجمعات بشرية تعتمد في حياتها على الطرق البدائية كتنمية المواشي وحفر الآبار ونمط ضعيف من الزراعة، كما تعتمد على التجارة في الدول الإفريقية المجاورة ولا تربطها بالدولة المركزية إلا مصالح قليلة وضعيفة أهمها الأوراق المدنية".


ـ "موريتانيا الأعماق هي المكان الهادئ الذي ينام فيه غول الولاء والتملق لا يزعجه أي صوت معارض مهما كان ضعفه، هي المكان الذي يعتبر ساكنته أي معارضة جريمة مهما كانت المبررات ، كما يعتبرون الموالاة واجبا دينيا وسياسيا وأخلاقيا مهما تعاقبت السلط واختلف القادة وضمرت النتيجة المتوخاة من تلك الموالاة".


ـ "موريتانيا الأعماق هي حيث يكون أبسط موظف صنما يقدس سواء كان معلم ابتدائية أو وكيل شرطة أو ممرضا ـ يستحق من أحسن من القوم التكريم لكن في سياقه ـ يأمر وينهي ويعزل ويولي يحتقر الناس ويجمع الجبايات والرشاوى ولا يقوم بأبسط واجباته، هي حيث يتطاول الإداريون على رموز المجتمع ويسوسون القبائل ويجمعون الهدايا بدون حق...الخ ، هي حيث تسرج الخيول وتخطم الجمال وتضرب الدفوف ويصطف الناس تاركين مشاغلهم ومشاكلهم ليحتفلوا بمقدم صحفي على شاشة التلفاز".


ـ "موريتانيا الأعماق هي حيث لا تحترم التخصصات مهما تعقدت وصعبت أي حيث تجد العجائز الأميين والشباب الجاهل يتطاولون على أكبر رمز في أي تخصص سواء كان سياسيا ماهرا ومحنكا أو علميا عارفا وباحثا، فيخبرك من لم يجلس على مقعد للدراسة في عمره ولا يحسن تهجي الحروف أن ما نصحك به طبيب أخصائي درس سنوات وبحث سنوات وتدرب سنوات "مجرد كذب وهراء"، أو يخبرك من لم يحضر في حياته مهرجانا سياسيا ـ فبالأحرى اجتماعا ـ ولم يقرأ جريدة ولم يستمع لإذاعة ـ فبالأحرى أن يتصفح موقعا الكترونيا ـ أن ما ينظر له أو يتبناه قادة سياسيون محنكون ورؤساء أحزاب تاريخية ورموز حركات إيديولوجية كبيرة مجرد "سفسطة وعمالة للخارج".


وباعتماد هذه المواصفات كاملة مجتمعة وخصوصا في ركائزها المهمة كالفقر والموالاة والجهل وفساد الموظفين وتجريم المعارضة تخرج مناطق مهمة من جغرافية "موريتانيا الأعماق" كالعاصمة نواكشوط والعاصمة الاقتصادية نواذيبو، وجل مناطق الشمال وجل ولايتي اترارزه وتكانت (بصفة نسبية طبعا).


وتتفاوت المناطق الباقية ضمن الحيز الجغرافي الموصوف من حيث تطابقها والمعايير المذكورة لكنها تتحد في كون جلها تنطبق عليه.

ولنأخذ الحوض الشرقي كنموذج نبين من خلاله الأركان الثلاثة المبينة أعلاه أي مجانية الموالاة وتهميش السلطة له ـ لا أقصد هنا تعيينات شكلية تأتي مكافأة لتملق وإنما البنية التحتية وأساسيات الحياة وواقع الشعب ـ ورأي النخبة فيه.


ولكن لنبين لماذا الحوض الشرقي بالذات:

ـ لاستغلال جمهوره أسوأ استغلال من طرف السلطات المتعاقبة (منذ خطاب النعمة التاريخي وحتى خطاب "الولاة وتقسيم التراب الأخير") ومن طرف "سياسييهم" كذلك وكبار مسئوليهم.
ـ لأن القوم كانوا أول من نقل معركة الولاة الجهوي من الأعماق إلى العاصمة في مظاهرتهم قبل يومين (مبدعون في الولاة كعادتهم).

ـ أكثر الولايات على الإطلاق ولاء وأقلها معارضة وخصوصا في القوى التقليدية ( فاطمة بنت خطري المعارضة الوحيدة في الولاية المنحدرة من وسط سياسي تقليدي). كما أنها أسوأ الولايات بنية تحتية وأكثرها تخلفا.

ـ كوني أعلم بهذه الولاية من غيرها وذلك بوصفي أحد ساكنتها، وربما في ذلك ما يجعلني أغير لواقعها أكثر من بقية الولايات (وإن كرهت ـ والله يعلم ـ الطرح الجهوي والولاءات الضيقة).

خيوط الخديعة

لقد استغل رؤساء موريتانيا المتعاقبون وسماسرة المنطقة وخصوصا بعد مهزلة الديمقراطية الشكلية بداية التسعينيات براءة حتى لا أقول "سذاجة" سكان ولاية الحوض الشرقي فاستعطفوهم بخطابات جوفاء وخادعة وبمظاهر تعاطف مصطنع من قبيل إطلاق حملة من هناك أو البدء بزيارات داخلية من هناك ، بدءا بخطاب النعمة التاريخي (يكفي النعمة أن يسمى بها خطاب الرئيس حينها) ثم باستغلال الدعاية الجهوية المقيتة من طرف الأمن وأعوانه وكان أكبر ضحايا هذه الدعاية أحمد ولد داداه منافس ولد الطايع القوي حينها.

تقول حقائق الأرض أن أهل الأعماق لو تبنوا الخطاب الجهوي حقا لا تملقا أو خدعة يساقون بها لصوتوا لمنحدرين من مناطقهم في الانتخابات الفارطة (سواء من المعارضة كمسعود أو صالح أو من الموالاة الزين ولد زيدان حيث لم يستطع أي من الثلاثة أن يكون الأول في أي من ولاياتهم المنحدرين منها).

كما خدعت السلطات هذه المناطق من خلال تعيين أعوان لها لا يمثلون في الغالب سواد جمهور الولاية ولا يستشار أهل الولاية في تعيينهم نيابة عنهم في وقت تحسبهم عليهم بل وتمن بهم، وتأتي هذه التعيينات في الغالب في مناصب أكثر شرفية منها تنفيذية أو مالية (أربعة من ستة رؤساء الوزراء) وإن أتت في غير تلك المناصب فإنها تكون في مصلحة ضعفاء أو مختلسون لا يهتمون بمصلحة الشعب ولا بتحسين صورة النظام بقدر ما يهتمون بالمحافظة على المنصب أو جمع الثروات.

حقائق بين الجهل والتجاهل

ـ لقد كان جميع عمد ولاية الحوض الشرقي ينتسبون للحزب الجمهوري غداة الثالث أغسطس 2005 وكذلك برلمانيوها، ثم في البلديات الفارطة لما أومأ المجلس العسكري بالاستقلالية دفعت في الولاية 205 لائحة بلدية ليس فيها للحزب الجمهوري إلا لائحة بلدية ريفية صغيرة ونائية ويرعاها رجل يكاد يكون من سكان ولاية أخرى .
ـ جميع برلمانيي هذه الولاية ترشحوا مستقلين وجميعهم اليوم منتسبون لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية باستثناء نائب واحد (لم يعارض بعد أيضا).

ـ كانت الولاية الوحيدة التي أصدر عمدها بيانا ضد ثورة الجياع وصفوها بالغريبة على قيمهم ومجتمعهم ـ ربما صدقوا فجميع الرفض غريب عليهم ـ والآن تكاد تكون الولاية الوحيدة التي يتفق جميع سياسييها أن من أخطر سوءات الرئيس المخلوع أن قامت تلك الثورة البريئة وسقط فيها شهداء (ذاكرة المتملق ضعيفة كذاكرة شعبنا).


ـ جميع من يمكن أن يطلق عليهم رموز الفساد في ولاية الحوض الشرقي يؤيدون ولد عبد العزيز والأغرب أن خمسة من كبارهم يتبوؤون مناصب سامية جدا في نظامه إلى هذه اللحظة. (لقد أعاد الرجل الثقة بالتعيين لمن هزم منهم في الانتخابات الفارطة رغم تأييد من هزمهم له).

ـ هناك نواة لمن يمكن أن يطلق عليهم رموز الفساد الجدد يتلخص تعريفهم في كونهم يسعون بكل ما أوتوا من قوة على التلون والتملق للحفاظ على واقع الولاية كما هي (موالية وفقيرة ومتخلفة)، ويختلفون عن الرموز التقليديين في كون هؤلاء لم يقدموا خدمات تذكر على مستوى العشائر والقبائل ...
ـ أكثر التقارير التي يقدمها سماسرة المنطقة للأنظمة عبارة عن وشايات ببعضهم البعض وتبخيس بعضهم البعض، وهو شيء طبيعي ما لم تصبح هناك معارضة ينشغلون بالتقارير عنها.

ـ تهميش السلطات لهم يبرز حتى في أشد الأوقات حاجة إليهم ـ نصوغ مثالا بسيطا ـ فقبل أقل من أسبوع زار بعض رموز ووجهاء الولاية وسياسييها المرشح محمد ولد عبد العزيز وأخبروه أنهم أتوا لتجديد الدعم له وأنهم سيبقون على دعمه سواء أجل الانتخابات أم لا لكنهم استفسروا الرجل عن أجندته فرد عليهم باختصار "شكرا على كل حال وعندما أقرر ما سأفعل سأخبركم" !! تساءل بعض القوم ـ طبعا بعد المغادرة ـ هل لدى الرجل أجنده غير المعلنة أم أنه لا يرغب في تأييدنا مطلقا؟.

ـ طرفة: "قبل أيام تداولت أوساط الولاية قصة تعكس جزء من الواقع الذي أتناول مفادها أن الوزير الأول في اجتماعه قبل يومين للتحضير لمهرجان "أهل الحوض" في قصر المؤتمرات تطاول عليه بعض الحضور ـ ربما لأنهم يعرفون أن ولايته انتهت وإلا لما فعلوا ـ فلاموه لأنه لم يغير من واقع الولاية المزري فرد عليهم "ربما حدث تقصير لكن كلكم كعمد أو برلمانيين أو سياسيين التقاني ولم يحدثني أي منكم عن الهم العام أو الواقع العام لا للولاية ولا للوطن بل كل منكم يسعى لحاجة شخصية إما تعيين أو نقود ولقد قمت في هذا الجانب بما استطعت".

خطوات عملية لآفاق أكثر مسؤولية

هذه بعض خطوات قد تنفع السلطات والمعارضة لتحسين صورتهم في تبرير الولاء بالنسبة للأولى وكسر الجفاء بالنسبة للثانية على مستوى المنطقة وخطوات عملية أخرى لساكنة المنطقة أنفسهم لتحسين واقعهم المر:
ـ بالنسبة للسلطة يجب أن تكشف المستور عن مجهوداتها التنموية والتثقيفية في المنطقة إن كانت موجودة ، وفي هذا الصدد يجب أن تعطي أرقاما عن تمويل سدود وشق طرق وبناء وتجهيز ومن المسؤول عن تنفيذها ؟ ومن أين لرموز الولاء في تلك المنطقة ثروات طائلة هل هي من ريع المشاريع ونصيب السكان هناك أم أنها هدايا ومكافآت ؟!

كما يجب عليها الاعتذار إن كانت هذه المشاريع لم توجد قط ... بل يجب أن توجدها ولتكن في حجم الولاء الجنوني والكثافة السكانية !!
ويجب عليها بكل تأكيد أن تعمل على رفع الوصاية التقليدية عن شعوب تلك المنطقة، وهو ما تقوم بعكسه الآن من خلال تعييناتها وتشجيعها لاستمرار الوصاية على الشعب.

ـ أما المعارضة فيجب عليها أن تغير من تركيزها على "إمارة انواكشوط" ـ كما سماها اشبيه ولد الشيخ ما العينين ـ حيث المال والسلطة والوعي لتغوص في أعماق المجتمع ، وعلى كوادرها المنحدرين من هناك العودة لذويهم عودة فاتح لا عودة متفرج أو سائح ، وأن لا يبقوا هنا مفضلين نسيم البحر وحيوية العاصمة على حر مناطق الداخل وجفافها.

ـ أما شعب المنطقة فما عليه إلا الخيار بين ثلاثة احتمالات عملية وجادة:

ـ الأول الانخراط في أي معارضة ضد أي نظام مادام واقعه المزري كما هو مكسرا قيود الولاء المجاني والتبعية لمن باعوه طيلة العقود الماضية.

ـ الثاني الولاء "الذكي" أي إبرام الصفقات مع يريد ولاءه وخصوصا من يملك القوة لكن مقابل مشاريع جادة وسريعة ، وتطوير البنى التحتية ورفع وصاية طبقة الفساد عنه.

ـ ثالثها أن ينشغل بمشاكله الخاصة فيهجر تجنيده في ركب استقبال أو ملء صندوق اقتراع، معتمدا على تنمية ماشيته وتجارته وخصوصا في الدول الإفريقية المجاورة ويقاطع صراع طبقات أهملته سنين طويلة.

خاتمة

قد لا يستوعب المرء في ظروف عادية أن تكون مقاطعة "تفرغ زينه" ـ حيث الحياة الأرقى في موريتانيا عموما ـ معقلا لمعارضة جميع الأنظمة ، وتكون "عدل بكرو" ـ المنطقة الأسوأ من حيث البنية التحتية والخدمات في الولاية الأسوأ من حيث المعايير ذاتها ـ معقلا لموالاة جميع الأنظمة موالاة تقديس وتأليه (مجرد مثال). كما قد لا يفهم أن يكون جميع عمد نواكشوط معارضين ياسثناء عمدة واحدة عينت أخيرا بعد عزل عمدة معارضة نتيجة خلاف سياسي بين أحزاب المعارضة، وأن يكون جميع عمد الحوض الشرقي موالين باستثناء عمدة واحد (من التحالف ) وقد عزل أخيرا تأديبا له لعدم استقباله ولد عبد العزيز (الحالة الوحيدة التي حدثت لعمدة مقاطعة رغم وجود عمد آخرين قاطعوا زيارات الجنرال، يتشرف أهل النعمة بكونهم من فعلها).

ما يميز موريتانيا الأعماق عن جميع الوطن هو ما عبر عنه أحد قادة المعارضة قبل عام "أنها عائق أمام التغيير" ، وأن ولاءها ليس ولاء المستفيد ـ على مستوى الشعب والبنية التحتية لا على مستوى خمسة أفراد رغم أنهم ليسوا أثرى ولا أكثر نفوذا من نظرائهم في مناطق أخرى ـ وما يميز الحوض الشرقي بالذات هو كونه الولاية الأكثر جمودا وولاء وفقرا ضمن موريتانيا الأعماق. فجميع ولايات "الأعماق" تشهد حراكا سياسيا جديا باستثناء الحوض الشرقي ولنضرب المثالين التاليين:

ـ ولاية الحوض الغربي تتنافس فيها ثلاثة تيارات سياسية (دون أداء الأحزاب المعارضة تقليديا)هي الموالاة النشطة كأنصار حزب الإتحاد من أجل الجمهورية أو مؤيدي عزيز خاصة وحزب حاتم، والموالاة الهادئة أو المشروطة كحزب الوسط (ولد الديه والرشيد وولد باب)، والمعارضة النشطة أعني القادمة من السلطة أصلا كجماعة "عادل" بزعامة محمد ولد ارزيزيم والنائبة القوية عزة بنت همام.
ـ ولاية لعصابة تشهد نفس الحراك وتنقسم إلى: جماعة المعارضة التقليدية التكتل (جماعة ولد امين وجماعة مقاطعة كيفه) وتواصل (شيخ مقاطعة كيفة وعمدة كرو وجمهورهم ) والتحالف (نائب رئيس حزبه وجمهور الحزب في الولاية). ثم جماعة "عادل المعارضة (يقودها نائب رئيس الحزب يحي ولد سيدي المصطف)، ثم الموالاة النشطة أي أنصار عزيز ، ثم الموالاة الهادئة أو المشروطة (النائب كابه ولد اعليوه وحلفاؤه).

وختاما قد لا تظل هذه الصورة قاتمة إذا بذلت السلطات جهدا لمكافأة جمهور الأعماق على ولائه ليصبح ولاء مستحقا، أو إذا بذلت المعارضة جهدا لتستغل الواقع السيئ لساكنة تلك المناطق فتحوله إلى معارضة جادة ومسئولة، أو إذا بذل السكان أنفسهم جهدا وأتقنوا اللعبة ولاء أو معارضة.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!