التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:06:37 غرينتش


تاريخ الإضافة : 09.06.2009 18:33:41

اتفاق دكار التوافقي : هل ينقل موريتانيا من مرحلة عدم الاستقرار إلى عتبة التحول الديموقراطي؟

بقلم: شيخنا محمدي لفقيه
باحث وكاتب

استبشر عامة الموريتانيين والمتابعون للشأن السياسي في البلاد خيرا وتبادلوا التهاني بتوقيع "ّ اتفاق الإطار بدكار بين الأقطاب السياسية الكبرى الثلاثة في موريتانيا " في الأسبوع الأول من شهر يونيو الجاري متفائلين بالتوصل إلى مصالحة وطنية شاملة بعد عشرة أشهر من انقلاب 6 أغسطس 2008.
وكان قد تم قبل ذلك وفي أثناء الأزمة تداول عدة أفكار و "مبادرات" على الساحة السياسية الداخلية واكبت مختلف مراحلها.غير أن تلك المبادرات لم تجد صدى من هذا الطرف أو ذاك رغم انعقاد "منتديات عامة للديموقراطية" للتشاور(ديسمبر2008- يناير 2009) قاطعتها القوى المناوئة للانقلاب.
وينص اتفاق دكار الموقع في نواكشوط على الإشراف على تنظيم مرحلة انتقال بصيغة توافقية للمشاركة في الانتخابات الرئاسية المصيرية المزمعة وفي تشكيلة حكومة انتقالية للوحدة الوطنية، وتكوين اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات. وقد تم التوصل إليه بعد جهود حثيثة بذلتها مجموعة الاتصال الدولية بإشراف من الاتحاد الإفريقي لكسر جمود الأزمة السياسية غير المسبوقة التي عاشتها البلاد بعد الانقلاب الذي قاده المجلس الأعلى للدولة برئاسة الجنرال محمد ولد عبد العزيز قبل عشرة أشهر من الآن وأطاح برئيس منتخب في أكثر الانتخابات تنافسية شهدتها موريتانيا منذ استقلالها عام 1960.

في هذه المقالة أُسلِط بعضا من الضوء على سياق المشهد السياسي الموريتاني الراهن في إطار مرحلة الديموقراطية التوفقية والتعرض للتفاعلات السياسية الداخلية التي توجّها اتفاق الإطار المذكور وما يمكن أن يسهم به الانتقال التوافقي من تعزيز لمساعي الديموقراطية والاستقرار السياسي والتنمية في موريتانيا.

الإطار النظري: الديموقراطية التوافقية:
يمكن تصنيف النظام السياسي الموريتاني القائم منذ 1991 في إطار تصنيفات النظم السياسية المقارنة بأنه نظام سلطوي أنتج تعددية مقيدة في ظل انفتاح سياسي محدود في ظل محاولات وانقلابات عديدة، وقد نجح هذا النظام في تنظيم عدة انتخابات سياسية اختلفت درجة التنافسية والشفافية فيها غير أنه ظل يراوح مكانه جامدا غير قادر على التطور الديموقراطي.ويحاول اتفاق دكار إضفاء صبغة توافقية على النظام الساسي الموريتاني فما هي الديموقراطية التوافقية وما خصائها ؟
فيعرفها "آرنت ليبهارت" الديموقراطية التوافقية استنادا إلى أربعة عناصر، العنصر الأول هو الحكم من خلال ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين من جميع القطاعات المهمة في المجتمع التّعددي، أما العناصر الأخرى في الديمقراطية التوافقية فهي الفيتو المتبادل أو حكم الأغلبية المتراضية، لا التي تستعمل كحماية إضافية لمصالح الأقلية الحيوية، والنسبية كمعيار أساسي للتمثيل السياسي والتعيينات في مجالات الخدمة المدنية، وتخصيص الأموال العامة، وأخيرا درجة عالية من الاستقلال لكل قطاع في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة.

والحقيقة أنه لا يوجد تطبيق واحد في العالم للديموقراطية التوافقية فلكل بلد خصوصياته واعتباراته وقد طبقت الديموقراطية التوافقية بمستويات مختلفة في بلدان مثل لبنان، العراق، السودان، الكونغو، روندا، جنوب افريقيا، كينيا، ماليزيا، النمسا، بلجيكا، هولندا، سويسرا، المغرب (حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبد الرحمن اليوسفي والتي ضمت سبعة أحزاب سياسية منها من ظل في المعارضة 40 سنة كحزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي 1998-2002).

ويحمل اتفاق دكار قدرا من خصائص المواثيق التأسيسية لمرحلة هذه الديموقراطية، وتتسم هذه المواثيق بثلاث سمات رئيسية هي:
الشمولية : إذ يجب أن تضم كل القوى أواللاعبين الأساسيين الفاعلين على الساحة، كي يتم ضمان احترام هذا التعهد من كل الأطراف وكي لا يجري اختراقه أو إفشاله؛
التضمينية للقضايا المركزية والجوهرية : بحيث إن المواثيق التي تتسم بالاتفاق على القضايا الإدارية أو الإجرائية غالبا ما لا تحمل صفة الديمومة أو الاستمرارية، كما أنها يجب أن تتميز بأنها ذات توجه عريض من الاهتمامات أكثر منها راسمة للقواعد والإجراءات اللحظية الآنية؛
التمثيلية أي إعادة الاعتبار لكل القوى ذات الوزن حتى التاريخي منها، والتي كانت مهيمنة تقليديا، وذلك كي يجري إشعارها بأن مصالحها الحيوية مصانة، وغالبا ما يكون لهذه القوى دور في إعطاء الشرعية لميثاق جديد يتجاوز دورها التاريخي، وبصمتها هنا تكون واضحة لضمان ثقة الأطراف الدولية.
كما أن إحدى السمات التي يتطلبها هذا النوع من الاتفاقات هي سمة الاعتدال لدى قادة القوى السياسية المشاركة في التفاوض، وربما يكون الاعتدال أحيانا ثمنا للمشاركة أو بحسب تعبير أحد علماء السياسة "مقايضة المشاركة بالاعتدال".

يمكن الدفاع عن الديموقراطية التوافقية في وجه النظام السلطوي أو الفوضى، ولكن يجب أن لا ننسى أن الديموقراطية التوافقية مرحلة لا بد من عبورها نحو ما هو أفضل ويجب أن تقترن بالعدالة الانتقالية كمفهوم أي تحقيق تسويات وتفاهمات تاريخية حول كافة القضايا الوطنية، وهذان هما جناحا إعادة تأسيس الدولة على شرعية جديدة تفتح الباب لإمكانية مستقبلية لبناء الديموقراطية الحقيقية، وعندها لن تكون الديموقراطية التوافقية إلا مرحلة انتقالية تتصف بقابلية الولادة والبناء وليس محاولة يائسة لإعادة الشباب والنضارة لنظام سياسي أنهكته الشيخوخة وأسقامها.

سياق الاتفاق:
رأى اتفاق دكار النور بعد مخاض عسير من التأزم وجولات من الاتصالات والزيارات للوساطة والتسهيل في إطار مجموعة الاتصال الدولية المكونة برئاسة الاتحاد الإفريقي لغرض الوساطة والتيسير في أجواء حياة سياسية موريتانية تتسم بالاحتقان الشديد وعدم الثقة المتبادلة بين الأطراف.

وقد مثل اجتماع باريس بمقر منظمة الفرنكفونية الدولية في 20 فبراير 2009 أول خطوات جمع الفرقاء الموريتانيين الثلاثة على طاولة واحدة، وقد أسفر ذلك الاجتماع عن تكليف مجموعة الاتصال الدولية التي تضم منظمات إقليمية (الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمة الدولية للفرنكفونية) ودولية (الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ) وأعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين وأعضاء مجلس الأمن من الدول الإفريقية(بوركينافاسو) بإشراف من رئيس الاتحاد الإفريقي الزعيم الليبي معمر القذافي بمتابعة الجهود والوساطة والتسهيل، وقد لعبت هذه المجموعة دورا بارزا في التوصل إلى اتفاق دكار بدعم من الرئيس السنغالي عبد الله واد ووزير خارجيتة الشيخ التيجاني غاديو حيث سعت لاستعادة النظام الدستوري في موريتانيا.

ومن المعلوم أن المفاوضات دارت بين الكتل الثلاثة أي الأقطاب الرئيسيين في المشهد السياسي الموريتاني الذي تبلور بعد انتخابات 2007 الرئاسية،وهذه الأطراف هي: فريق الداعمين للجنرال محمد ولد عبد العزيز قائد انقلاب 2008 (أغلبية النواب في البرلمان وهم من "المستقلين" أساسا وبضعة أحزاب)، فريق المطالبين بعودة الرئيس المخلوع سيد محمد ولد الشيخ عبد الله (الجبهة الوطنية للدفاع عن الديموقراطية وتشمل ثلاثة أحزاب رئيسية)،و فريق آخر يقوده زعيم المعارضة الديموقراطية أحمد ولد داداه وحزبه تكتل القوى الديموقراطية.

فهل هذا الاتفاق هو اتفاق الحد الأدنى؟ وهل نحن في مرحلة توازن الضعف؟ وكيف يمكنه تعزيز مساعي بناء الديموقراطية؟ وهل سينجح الاتفاق في تطوير نظامنا السياسي وولوج الديموقرطية الحقيقية؟

النظام السياسي الموريتاني 1991-2009: الاستمرارية بدلا من التغير؟
هناك قاعدة لدى العلماء تقول إنه عندما تختلط الأمور وتغيم الرؤية‏ وتضل طريقك عليك أن ترجع الي نقطة البداية‏.‏ وهذه القاعدة تكشف إذا ما طبقت على المشهد السياسي الموريتاني عن طبيعته. والبداية هنا هي جذور النظام السياسي السلطوي الحالي الذي تأسس في ظل حكم الرئيس معاوية ولد الطايع ودستور1991 والذي يعلق الموريتانيون آمالا عريضة على اتفاق دكار لإضفاء إصلاحات جذرية عليه. لقد مر هذا النظام بحالة استقطاب حادة أدت إلى أزمات وعواصف هزت أركانه منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي (مباشرة بعيد الانتخابات الرئاسية لعام 1997 وهي الأقل تنافسية منذ عقدين من الزمن رغم مشاركة ستة مترشحين فيها) و جعلت من الصعب على رأس النظام آنذاك معاوية ولد الطايع البقاء في الحكم إن هو لم يواكب سنة التغيير ويوفق في ابتكار آليات لإصلاح وتطوير نظامه السياسي والاقتصادي لامتصاص الأزمات المتلاحقة التي دبت في جسمه وتفاقمت مع إقدامه فجأة – استقواء بالولايات المتحدة والقوى الكبرى في العالم - على إقامة علاقات سياسية غريبة مع إسرائيل في 28 أكتوبر 1999. ولم تفلح التحسينات الروتنينية الطفيفة والماكياج المصطنع ولا التنازلات البسيطة التي وافق عليها استجابة لسياسة المساومة التي انتهجها آنذاك حزب اتحاد قوى التقدم معه في إزالة التجاعيد عن نظام بلغ من العمر عتيا وتآكلت شرعيته بعد أن كان قد أتى بأقصى ما عنده أي بانفتاح سياسي محدود (تجسد في انتخابات تنافسية - أربعة مترشحين كانت عوامل القوة في صالح أحدهما دون الثلاثة الآخرين- في إبريل1992) ، بعد ذلك استمر تدهور العلاقات بين النظام المتصلب والمعارضة المتشرذمة التي تراوحت مواقفها بين المقاطعة للانتخابات الرئاسية (1997) والمشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية (1994،2003،2004).

سعى معاوية ولد الطايع ماوسعه الجهد إلى إضفاء تحسينات على نظامه السياسي ولكن مساعيه تلك اقتصرت على إقرار النظام الانتخابي (النسبية) في سنوات 2000،2001 و2002 وتنظيم انتخابات شبه تنافسية عام 2003، ولكن سياسة التفتيت التي انتهجها إزاء المعارضة والضربات الموجعة التي كان يوجهها لأحزابها وقادتها بسبب تدهور العلاقات بين الطرفين (بعد مقاطعة انتخابات 1997) في ظل احتقان سياسي كبير ناتج عن اشتداد أزمة النظام السلطوي واستمرار انهيار الوضع في فلسطين واستمرار العلاقات الموريتانية-الإسرائيلية أدتا معا إلى الفشل الذريع في تلميع صورة النظام وتآكل شرعية "ديموقراطيته" نهائيا، فلم تأت الانتخابات شبه التنافسية في 7نوفمبر 2003 (ستة مترشحين) إلا بعد أن بدأت حمى الانقلابات تعود إلى موريتانيا بعد حوالي 20 سنة من الاستقرار النسبي، فقد وقعت أول محاولة انقلابية كادت تنجح في 8 يونيو من نفس العام، وقد تواصلت محاولات الانقلاب ضد النظام إلى أن سقط رأسه في انقلاب 03 أغسطس 2005.

انقلاب 2005
في ظل تلك الأوضاع استلم المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية زمام الحكم بانقلاب 03 أغسطس 2005 أثناء وجود الرئيس الموريتاني في السعودية، وقد وجد المجلس نفسه في وضعية صعبة فبقاؤه في الحكم غير ممكن وطموحات القادة العسكريين الجدد في نواكشوط متباينة ولا حدود لها. وبين الاستمرارية والتغير في النظام السياسي والدستوري الذي أرساه معاوية ولد الطايع اختارت مجموعة ضباط المجلس العسكري بقيادة مدير الأمن السابق العقيد اعل ولد محمد فال مواصلة نهج حكم ولد الطايع على نحو يؤدي إلى التحكم في النظام بآليات "خفية" أو "بالوكالة" فيما. بعد واقتصرت التحسينات التي أدخلها نظام المجلس العسكري على تعديلات جزئية على دستور 1991 تمثل أهمها في تقليص عدد الولايات الرئاسية (2 بدلا من ما لانهاية) ومُددها (من 6 إلى 5 سنوات)، والفصل بين رئاسة الأحزاب السياسية ورئاسة الجمهورية، وإقرار قانون ينشئ نظاما خاصا يمنح امتيازات معنوية ومادية للمعارضة في شخص زعيم المعارضة الديموقراطية أحمد ولد داداه، وذلك بعد أن تم كبح جماح الطموحات الشخصية المتباينة للقادة العسكريين المتصارعين على القوة والنفوذ من خلال إصدار قانون توافقي خاص من طرف المجلس العسكري يحظر على أعضائه الترشح في الانتخابات الرئاسية وإن لم يمنع عليهم ممارسة السياسة في الخفاء. ومع ذلك فإن اختلاف الطموحات وصراع الزعامات داخل المجلس العسكري خرج إلى النور مع بدء تدخل أعضاء المجلس في الحياة السياسية من خلال تزكية بعض المترشحين للانتخابات البرلمانية والبلدية والرئاسية ودعم بعض الأطراف وإقصاء غيرها، وانتهى بهم المطاف إلى إنشاء كتلة سياسية من "المستقلين" داخل البرلمان ترتبط بالمجلس العسكري بشكل مباشر، وقد شكل هؤلاء النواب "المستقلون" أغلبية داخل البرلمان المنتخب سنة 2006، وبعد ذلك جرى الحديث وسمع دوي خلافات داخل المجلس العسكري، وانقسم هذا الأخير وإن كان بصفة غير معلنة إلى محورين بمناسبة الانتخابات الرئاسية للعام 2007 أحدهما دعم المرشح أحمد ولد داداه فيما وقف المحور الآخر وراء المرشح سيد محمد ولد الشيخ عبد الله.

انتخابات 2007 في الميزان
يمكن القول دون مبالغة أن انتخابات 2007 شكلت إضافة نوعية ولبنة رئيسية غير مسبوقة في صرح تنظيم الانتخابات الرئاسية التنافسية في البلاد، فبعد دورين من التنافس بين 19 مترشحا فاز السيد سيد محمد ولد الشيخ عبد الله في الانتخابات بفارق ضئيل عن منافسه السيد أحمد ولد داداه. غير أن الأمور اتخذت منحى آخر بعد الانتخابات، فما لبث النظام أن ارتكس كنظام سلطوي يدار وفق آلية عمل المنظمات السرية الانفرادية مما أضعف قدرته على تصحيح الأخطاء وفتح الباب أمامه بشكل واسع نحو الدخول في سلسلة لا متناهية من الأخطاء التي انتهت بكوارث سياسية واقتصادية بسبب الاحتكار السياسي والإقصاء والتهميش.

وبينما تولى الرئيس سيدي محمد منصبه في ظل غياب تنظيم سياسي يلم شمل الأغلبية البرلمانية الداعمة له في الجمعية الوطنية تقلد أحمد ولد داداه منصب زعيم المعارضة المصادق عليه للتو والذي اقتصر دوره على لقاءات دورية شكلية مع رئيس الجمهورية لم تلبث أن علقت كما أنها لم تسفر عن شراكة أو نتائج يمكن للمراقب أو المواطن الموريتاني أن يراها رأي العين على أرض الواقع.

وبعد عام من وصوله إلى السلطة حاول الرئيس سيد محمد العودة إلى نظام الحزب الواحد الكبير (حزب عادل على غرار حزب الشعب والحزب الجمهوري) الذي تنصهر فيه أغلبية البرلمانيين الذين دعموه في الانتخابات، ثم قام بإقالة حليفه السابق و وزيره الأول (الزين ولد زيدان) في خطوة تكشف عن أجندة خفية على ما يبدو، وعين مكانه الوزير يحي ولد أحمد الوقف،وقد جاء ذلك بعد أن كان الرئيس قد أسس حزب العهد الوطني من أجل الديموقراطية والتنمية ومنح رئاسته للوزير يحي ولد أحمد الوقف، ولم يستسغ النواب المستقلون الذي يشكلون أغلبية الرئيس في البرلمان معاني هذه الخطوات الارتكاسية و بدأوا الانسحاب زرافات ووحدانا من حزب العهد الوطني للديموقراطية والتنمية(عادل). ودخلوا في مجابهة مع الرئيس فرفضوا منح الثقة للوزير الأول الجديد وحاول الرئيس تمرير التعيين مرة أخرى فرفع النواب ملتمس حجب الثقة في وجه حكومة الوزير الأول الجديد. بعد ذلك اقتنع الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله على ما يبدو أن التعايش مع البرلمانيين المستندين إلى دعم من الجنرالات من القادة العسكريين (محمد ولد عبد العزيز و محمد ولد الغزواني) لم يعد ممكنا، فلم يلجأ إلى حل البرلمان كما كان متوقعا بل اتخذ منحى آخر وأصدر يوم 06 أغسطس 2008 مرسوما بإقالة الجنرالات الذين يمثلون مركز القوة في النظام، وقد كان رد فعل هؤلاء قويا وسريعا في الإطاحة بالرئيس في نفس اليوم و أبقوا على البرلمان دون حل.

أزمة 2008-2009
لقي انقلاب 6أغسطس 2008 الذي قام به المجلس الأعلى للدولة بقيدة الجنرال محمد ولد عبد العزيزرفضا دوليا غير مسبوق (من قبل الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة) وفي نفس الوقت صدى شعبيا إيجابيا وآخر مناوئا، فقد رحب به حزب تكتل القوى الديموقراطية وأغلبية النواب والشيوخ "المستقلين" في غرفتي البرلمان بسبب صعوبات الحياة الاقتصادية وارتباك الرئيس المخلوع في معالجته للأزمة السياسة التي أصابت نظامه وانقلابه على التحالفات التي أتت به إلى الحكم ومحاولة بناء تحالف آخر يقلب به الوضع رأسا على عقب، وعارضت الانقلاب الأحزاب التي تحالفت مع الرئيس في ظل حكومة أحمد الوقف (تواصل الإسلامي والتحالف الشعبي التقدمي واتحاد قوى التقدم وبقية من حزب عادل) مكونة فيما عرف بعد ذلك بالجبهة الوطنية للدفاع عن الديموقراطية.

وعلى ما يبدو فإن بعض القوى الدولية المؤثرة في موريتانيا (فرنسا تحديدا) تفهمت مبررات الانقلاب أو استساغت بعضا منها على الأقل على خلفية هواجس أمنية خاصة بعد حادثة مقتل السواح الفرنسيين والاضطرابات الأمنية وفي ظل تواجد مجموعات مسلحة في العاصمة ووقوع مطاردات لها من قبل الأمن في قلب المدينة أثناء زيارة أمير قطر للبلاد( الفترة من ديسمبر 2007 إلى مايو 2008) وصعوبات الحياة الاقتصادية (مظاهرات "الجياع" نوفمبر 2007) والخشية من مواجهات بين بعض الأجنحة العسكرية في الجيش بعد عزل الجنرالات .

ارتكزت استراتيجية المجلس الأعلى للدولة 2008 على مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة للمواطنين من خلال انتهاج سياسة عاجلة لتخفيض واستقرار أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية لكسب المزيد من الشعبية. وفي مواجهة رفض المنظمات الدولية والولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بشرعية النظام الجديد واستمرار نشاطات الأحزاب المناوئة للانقلاب (في ظل حديث عن دعم خارجي مباشر) ورفضها المشاركة في المنتديات العامة للديموقراطية وتمسكها ب "إفشال الانقلاب" وإعادة الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله إلى الحكم، قام المجلس الأعلى بتجميد العلاقات الموريتانية الإسرائيلية بعد حصار غزة مما عزز من قبوله وشعبيته الداخلية، وقام بتنظيم "المنتديات العامة للديموقراطية"، غير أن اشتداد الضغوط الدولية بعد اجتماع باريس في 20 فبراير 2009 دفعت ببدء الوساطات وذلك مع زيارة الزعيم الليبي معمر القذافي لنواكشوط في 9مارس 2009 بتكليف من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي في إطار تطبيق المادتين 9 و96 من اتفاقيات كوتونو للشراكة، وقد صرح العقيد القذافي في نهاية زيارته لنواكشوط بتأييده لتنظيم الانتخابات المزمعة من طرف المجلس الأعلى للدولة في 06/06 مما أدى إلى إغضاب المعارضة وحديثها عن فشل مهمة "الوساطة". بعد ذلك دخلت السنغال على خط الوساطة والتسهيل. ومع ذلك لم يكتب لزيارات الرئيس السنغالي ووزير خارجيته و لا للجلسات المطولة التي انعقدت في فندق اطفيله بنواكشوط إحراز تقدم بسبب تعقد النقاط المطروحة وتشعبها وتعدد أبعادها في ظل أجواء احتقان و توتر مشحون رسميا وشعبيا بعد اشتداد الانقسام وتمايز المعسكرين المؤيد والمناوئ للانقلاب في العاصمة نواكشوط، مما جعل المسهلين والمفاوضين ينقلون الجلسات إلى العاصمة السنغالية دكار.


اتفاق دكار:
كما ذكرنا آنفا عرفت الساحة السياسية الداخلية في موريتانيا منذ نهاية السنة المنصرمة طرح العديد من الأفكار والمبادرات في فترات اشتداد الأزمة بغية إيجاد مخرج أو حل طوعي توافقي داخلي من الفرقاء السياسيين، نذكر من ذلك على سبيل المثال: - مبادرة الأغلبية البرلمانية الداعمة للجنرال عبد العزيز والتي تقترح تنظيم انتخابات رئاسية في 6/6 بإشراف من حكومة انتقالية في ظل رئاسة بالإنابة لرئيس مجلس الشيوخ با امباري، - مبادرة الرئيس المخلوع سيد محمد التي تقترح تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة بإشراف منه، - وقدم تكتل القوى الديموقراطية مبادرة تشتمل على رفض العودة إلى ما قبل 6 أغسطس 2008 وتنظيم انتخابات رئاسية.غير أنه لم يقدر لأي من هذه الأفكار أن تتبلور في صيغة عملية لمناقشتها جماعيا داخل موريتانيا.
وهكذا بعد أن أخفقت جهود الزعيم الليبي في حمل القوى المعارضة (والتي انضم إليها حزب تكتل القوى الديموقراطية بعد أن ساند المجلس الأعلى وشارك في " المنتديات الديموقراطية") على قبول ما أطلق عليه "أجندة أحادية" للمجلس الأعلى للدولة" تقرر إدماج السنغال في تحركات مجموعة الاتصال الدولية. وهكذا وبعد زيارات مكثفة من الرئيس السنغالي عبد الله واد ووزير خارجيته الشيخ التيجاني غاديو إلى نواكشوط تقرر نقل المفاوضات إلى دكار وذلك لما للسنغال من خبرة تاريخية في الشأن السياسي الموريتاني باعتبار الروابط الإنسانية والجغرافية والتاريخية في إطار إفريقيا الغربية الفرنسية خاصة إذا ما استرجعنا تاريخ الكثير من القرارات المصيرية التي تخص موريتانيا والتي كانت تتخذ في حقبة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي في دكار أو سانت لويس.

جرى الحديث أثناء مفاوضات دكار عن ضغوط دولية كبيرة لحمل الفرقاء على القبول باتفاق ما ينهي أزمة طالت أكثر مما ينبغي أو يكون بداية لإنهائها على الأقل ، والحقيقة أن الوسطاء والدبلوماسيين الدوليين المسهلين لحوار فرقاء الأزمة الموريتانية بذلوا جهودا مضنية احتاجت إلى أيام وليالي طويلة من المفاوضات لحصر نقاط الاختلاف والبحث عن نقاط تقارب أو التقاء ما في جدول المباحثات السياسية من أجل إيجاد توازنات دقيقة بين الأطراف والاتفاق على قواعد لممارسة السلطة على قاعدة ضمانات متبادلة للمصالح الحيوية لكل الأطراف المشاركة في العملية سبيلا لتقديم تنازلات متبادلة وحقيقية تجسد التكلفة أو الثمن الحقيقي الذي يمكن لكل قطب من الأقطاب الثلاثة التضحية به من أهداف تكتيكية في سبيل تحقيق أهدافه الإستراتيجية.

وقد حاولوا في تكتيكهم التفاوضي تقديم أفكار متنوعة للحصول على ردود فعل الأطراف ومعرفة النقاط الأسهل التي يمكن عبرها تذليل الصعوبات الكبيرة وهم في ذلك انتهوا إلى أن النقاط الكبرى من المستوى الأعلى تمس كلا من الرئيسين سيد محمد ولد الشيخ عبد الله و محمد ولد عبد العزيز مباشرة وهما وحدهما المخولان للبت فيها مثل موضوع استقالة الرئيس المخلوع والإجراءات الشكلية والبروتوكولية لذلك إن وجدت، وكذا احتمال حضور الرئيسين أمام كاميرات التلفاز لتوقيع الاتفاق أو مراسم أخرى من عدمه. ويعتقد الكثيرون بأنه تم التوصل إلى تفاهمات أو ضمانات أو محاور أخرى لاتفاق غير مكتوب أو غير معلن لكي يضمن الوسطاء نجاح مهمتهم.

وعلى العموم نجحت جهود الوسطاء الدوليين في إدارة الصراع الموريتاني –الموريتاني في تقديم أول مسودة اقتراح لاتفاق مكتوب بين الأقطاب الثلاثة الكبرى في 29/05 تم تعديلها لاحقا في مسودة أخرى هي التي تم توقيعها في نواكشوط يوم الخميس 04 يونيو 2009، وقد تضمنت اتفاقية دكار في صيغتها النهائية بنودا تتلخص في ما يلي:
ü توقيع الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله لمرسوم تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية لبدء أعمالها بدون المس بالأعمال الحكومية السابقة لذلك التاريخ؛
ü إعلان وتحديد إجراءات قراره الطوعي بخصوص ولايته في رئاسة الجمهورية" الاستقالة"؛
ü بدأ سريان مفعول هذا القرار فيما يتعلق بالإنابة في منصب رئيس الجمهورية من طرف رئيس مجلس الشيوخ تطبيقا للمادة 40 من دستور 1991: " في حالة شغور أو مانع اعتبره المجلس الدستوري نهائيا، يتولى رئيس مجلس الشيوخ نيابة رئيس الجمهورية لتسيير الشؤون الجارية.يقوم الوزير الأول وأعضاء الحكومة، وهم في حالة استقالة، بتسيير الشؤون الجارية. ليس للرئيس بالنيابة أن ينهي وظائفهم ولا أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء ولا أن يحل الجمعيةالوطنية.
يجري انتخاب رئيس الجمهورية الجديد خلال 3 أشهر ابتداء من إقرار شغور المنصب أو المانع النهائي مالم تحل دون ذلك قوة قاهرة أثبتها المجلس الدستوري .
لا يمكن إدخال أي تعديل على الدستور عن طريق الاستفتاء أو عن طريق البرلمان خلال فترة الإنابة".

ü تشكيل حكومة وحدة وطنية يوم 6 يونيو كآخر أجل وتوزيع مناصب الحكومة بالنصف بين قطب موالاة انقلاب 6 أغسطس 2008 من جهة، وكل من القطبين الآخرين الجبهة الوطينة للدفاع عن الديموقراطية وتكتل القوى الديموقراطية من جهة ثانية، وتعيين الوزير الأول من قطب الموالاة بعد التشاور مع القطبين الآخرين، ويخصص مقعد وزارة الداخلية ووزراة المالية والاتصال لشخصيات من الجبهة الوطنية والتكتل؛
ü تضمن الحكومة الانتقالية للوحدة الوطنية استمرارية الدولة وتسيير شؤون البلاد وتنفيذ الاتفاق، وبصفة خاصة اتخاذ الإجراءات المناسبة لتنظيم وحسن سير الانتخابات الرئاسية، مع الأخذ في عين الاعتبار أن أعمال وقرارات الحكومة الانتقالية يجب أن تنسجم مع متطلبات السير الطبيعي للمؤسسات واستقرار الإدارات العمومية واستمرارية العلاقات الدولية للبلاد وقيام المؤسسات و هيئات الدفاع والأمن بمهامها في إطار الدستور وقوانين الجمهورية؛
ü وتحدد حكومة الانتقال للوحدة الوطنية تاريخ وآجال كافة العمليات المتعلقة بالمسلسل الانتخابي، وخاصة مراجعة استثنائية للائحة الانتخابية، والمصادقة على بطاقة الناخب والمصادقة على ملفات الترشح؛
ü تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى يوم 18 يوليو؛
ü اعتماد مهمة اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات وتشكيلتها انطلاقا من النصوص القانونية النافذة وعلى أساس التجارب السابقة فور تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية. تتكون اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات من 15 عضوا على أساس اقتراح أربعة أعضاء من طرف كل قطب من الأقطاب السياسية الكبرى، ويكون الرئيس ونائبه وعضو آخر ممثلين للمجتمع المدني لديهم الكفاءة المطلوبة وليس لأي قطب من الأقطاب الثلاثة اعتراض عليهم؛
ü كما تعهدت الأقطاب بأن تلتزم حكومة الوحدة الوطنية الحياد التام وخط التهدئة السياسية وبناء الثقة على الساحة السياسية وأن لا تكون هناك متابعات قضائية ضد الأشخاص بسبب انتماءاتهم السياسية احتراما لمبادئ المساواة وإعمال مبدأ قرينة البراءة إلى حين إثبات الإدانة؛
ü احترام الموظفين المدنيين والعسكريين وكافة وكلاء الدولة بدقة لواجبهم بالحياد والامتناع عن كل عمل يمكن أن يشوب نزاهة المسلسل الانتخابي.وستتم متابعة ورقابة هذه الالتزامات في إطار أجهزة الإجراءات الداخلية وآليات الدعم التي ستضعها المجموعة الدولية لتعزيز شفافية ومصداقية المسلسل الانتخابي؛
ü بالإضافة إلى إجراءات أخرى عاجلة لبناء الثقة من قبيل توقيف الحملات الإعلامية السلبية والنفاذ المتساوي لكافة الأطراف السياسية إلى وسائل الإعلام العمومية، وفي هذا الإطار فإن السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية ستقدم في إطار اختصاصاتها ودور أعضائها المحايد مساهمتها الكاملة في تنفيذ هذا الاتفاق؛
ü مواصلة الحوار الوطني الشامل حول النقاط المتبقية التي تعزز المصالحة الوطنية والديموقراطية فيما بعد الانتخابات الرئاسية بين كافة القوى السياسية الموريتانية لتعزيز ممارسة الديموقراطية التعددية والحد من التغييرات الحكومية التي تنتهك الدستور والعمل على إصلاح المؤسسات الأمنية الوطنية؛
ü تطوير الحكم الرشيد وتعزيز دولة القانون واحترام حقوق الإنسان وإجراء إصلاحات تدعم حسن سير وتوازن مؤسسات الجمهورية
ü الحرص على إيجاد توافقات سياسية وشراكة في ممارسة السلطة وآفاق إجراء انتخابات برلمانية مبكرة،
ü كل المسائل التي تعزز الوحدة الوطنية والمصالحة والاستقرار وإضفاء صبغة أخلاقية على الحياة العامة والتنمية في البلاد؛
ü حث الأقطاب على احترم البنود والآجال المتضمنة في الاتفاق؛
ü دعوة مجموعة الاتصال الدولية للمتابعة المنتظمة ميدانيا و إن اقتضي الأمر التدخل لتسهيل التصالح في وجه كافة العراقيل أو الصعوبات المحتملة لتطبيق هذا الاتفاق.


من منظور الحوار الوطني الشامل تضمنت روح الاتفاق طيا لصفحة الماضي، ويمكنه أن يشكل مرجعية لتنقية مناخ سياسي متوتر إذا ما أحسن تطبيقه وسهرت عليه آليات قادرة على ذلك، بعد اتفاق الأطراف فيه على امتناع كل طرف عن استخدام قوته لإيذاء الآخر ومصالحه الحيوية. وذلك بعد أن أصبحت النفوس الآن أكثر هدوءا واستعدادا لإعادة ترميم الثقة.

و في الأخير، فإن اتفاق دكار وتطبيقه يمثل صمام أمان لعلاقات سوية جديدة بين الفرقاء ويعلق عليه الموريتانيون آمالا كبيرة لتحقيق مصالحة نهائية وفي التقدم في حياتهم السياسية ولماذا لا تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!