التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:06:29 غرينتش


تاريخ الإضافة : 10.06.2009 17:58:02

الانقلاب المدني الأول

محمد سالم ولد أحمد
[email protected]

خلاصة: يروم هذا المقال لإعادة قراءة ما حصل منذ أغشت 2005 ، سياسيا، ليست قراءة سردية للمشهد المتبدل شكلا ، المستقر جوهرا، لكن تحليلا سياسيا و "محاكمة عقلية" لما حدث منذ ذالك الوقت ، و هو بالإضافة لذالك يحاول إبراز المكانة العالية لتلك "الهزة السياسية الكبرى" ، التي كنا علي موعد معها في تلك الليلة المباركة من أغشت 2008.

في البدء

في الثلث الأخير من ليلة السادس من أغشت 2008 و بعد أن صلى في محرابه (الذي بناه) صلاة الاستخارة (كما تعود أن يفعل) ، خرج إلى اجتماع مع بعض أهل مشورته السياسية و تداول معهم في أمر ظل يؤرقه ( أي يؤرق شعبه ) منذ زمن . و بعد استيفاء الشورى ، قرر الرئيس أن يضحي بكرسيه في سبيل تخليص البلاد من دكتاتورية و فساد العسكر السافر و السائد منذ 1978 ، فأصدر قراره و عاد إلى محرابه يتبتل و يستعد للإبتلاء القادم بمزيد صلاة و دعاء.

الانقلاب الأول : الخديعة الكبرى

مع بداية أغشت 2005 كان العقيدان (عزيز، غزواني) منهمكان في طي سجل ولد الطايع في الحكم ( بالمناسبة لم يكن ولد الطايع رئيسا يحكم بقدر ما كان فلسفة تسود و نظاما يتبجح) دون المساس بنظامه السياسي – أي نظامهما- الذي بناه الرجل طيلة عقدين من الزمن .
لقد كانت مهمة شاقة و إن كانت أسهل (بكل تأكيد) من القتال ضد الإرهاب القادم من الشمال ، فقد شاع في تلك الأثناء ( وهو ما تعززه العديد من القرائن اليوم) أن ولد الطايع قد قرع الضباط بعد عملية لمغيطي بألفاظه الخشنة -دائما – و وعد أن يرسلهم لقتال جند بلعور هنالك و هو ما لم يتعودا عليه ، فهما خلقا – عسكريا- بعد حرب الصحراء ولم تلفحهم نار البوليزاريو و هي تذيق جيشنا طعم الانكسارات و تخترق حدودنا حتى مشارف العاصمة انواكشوط. نجح العقيدان و بمهارة أن ينفذا انقلابهما و اختارا الكولونيل الطائعي: أعل ولد محمد فال واجهة سياسة .
رحبت الطبقة السياسية (علي اختلاف دوافعها) بالحل العسكري لمشكلة الدكتاتورية العسكرية ، صفق الجميع (دون تحفظ واضح أو على الأصح كبير ) للوافد الجديد إلي القصر الأزرق (كان يفد قبل ذالك محملا بالتقارير الاستخباراتية و يعود بأوامر الاعتقال والتعذيب ) و ما كان ذالك الوافد إلا أكثر رجالات ولد الطايع تسبيحا بحمده و تماهيا مع سياساته بل تأكد انه و راء أكثرها : "عذابات الإسلاميين " و "التطبيع" و نصيب وافر من الفساد المالي (أعترف هو بشيء من ذالك ) . و مع ذالك فقد أصم ضجيج بيانات التأييد و صوت التصفيق المنبعث من أركان النظام السابق و معارضيه علي حد سواء ، عقلاء القوم من معارضين سابقين و حقوقيين و طلاب و رجال مجتمع مدني ...عن سماع صوت العقل و حكمة "تجارب الأمم" التي تنصح بالتجريح قبل التعديل و الشك قبل استيفاء شروط اليقين و أن الأصل في مجتمع فاسد (اعني الطبقة السياسية) أن نشكك و نتوجس لا أن نرحب و نؤيد ، وبذالك وقع القوم (المعارضين) في الفخ وسرق نظام ولد الطايع المتجدد في شخص "أعل" نضالاتهم و أصبحت في لحظة تنسب للعسكريين ، فالعسكر هو الذين جلبوا الديمقراطية و هم الذين أزاحوا الدكتاتورية ، ونسي الجميع أو تناسى أنه ما كان للأحذية الخشنة أن تلد ديمقراطية مستقرة. ولو كره ذالك من كرهه.
المهم أنخدع الجميع و هي عادة في كل الثورات (تقريبا ) فكم من ثورة سرقت علي يد أعدائها : فثورة 23 يوليو وضع معالمها و نظر لها الشهيد سيد قطب و كان وراء تنفيذها ضباط الإخوان مع بعض الشيوعيين ، ولكن الثورة سرقت من تحت الجميع و أستبد بأمرها رجل واحد أذاق أصحابها الحقيقيين من العذاب ما لم يذقه مسلمو الأندلس علي يد محاكم التفتيش.

ثم هل أتاك نبأ سرقة الخائن "أسياس أفرقي" لثورة مجاهدي أثيوبيا الإسلامية وهي علي أعتاب النصر.

أتاحت تلك الفترة الانتقالية لنظام ولد الطايع أن يستريح و أن يبدل جلده في هدوء و أصبح المعارضون حائرين و أستغرقتهم اللحظة السياسية بما أتاحته من حرية في الإعلام و الصحافة و من وعود براقة خلبت لب المعارضين السابقين و لم يستطيعوا مجاراتها ، في ذات الوقت انهمك العسكريون (كعادتهم) في امتصاص موارد الدولة و ارتشاف مشاريعها ليتركوها خاوية وكان لم تكن دولة من قبل. ثم كان لا بد من أن ينهوا المسرحية الانتقالية بفصل يشهد أنهم لم يبتعدوا كثيرا، إنهم خلف الستار.

الانقلاب الثاني : نعومة الانتخاب بدل خشونة البزات

انتهت المرحلة الانتقالية الأولي كما بدأت بانقلاب ، ولكن هذه المرة كان ناعما ، انقلب العسكر علي موعودهم السابق و ملمع صورتهم : أحمد ولد داداه (رجل طيب مصاب بداء حسن النية) انقلبوا عليه بالرجل النموذج في الضعف سيد ولد الشيخ عبد الله (ستسقط هذه الصفة فيما بعد و تبدو صفة الرئيس المؤتمن هي الأصح ، فعلا لم يكن الرجل ضعيفا كان مؤتمنا. سبحان الله) . لقد قبل هذا الأخير أن يلعب دور الممثل ( لكنهم أرادوه ممثلا هزليا) في مسرحية لا تذكر إلا بمسرحيات شارلي شابلن الصامتة . اعترف ولد داداه بالنتيجة و إن لم ينكر دور "المال الحرام" فيها. وبذالك نجح العسكريون أن ينقلبوا للمرة الثانية دون أن يعارضهم احد بل كان الجميع يشيد بدورهم المخلص و المنقذ.
لماذا أراد العسكر "سيد" ؟.

يبدو السؤال سطحيا لحد كبير وقد شاع في الإجابة عليه أن العسكر يريدون من لا حول له ولا قوة ليكونوا حوله وقوته، و "سيد" كان يظهر (مما هو باد من شخصيته أنذاك ) انه قادر علي لعب ذالك الدور فاختاروه. لا لم يكن الأمر كذالك، لقد أراد العسكريون ( ومن خلفهم) أن يثبتوا أن لا خير في الديمقراطية فقد أتتنا برئيس ضعيف و فجرت الأزمات ( الماء ، الكهرباء، المبعدين ، الإرهاب ....). لقد كانت بحق فترة لتشويه الديمقراطية ( وقد نجحوا في ذالك إلي حد كبير) . أراد العسكر أن يقتنع الناس بهم عن طريق تشويه غيرهم، يقولون : دكتاتوريتنا أفضل من ديمقراطية "سيد" ، الديمقراطية لا "تؤكل" . تأكد هذا بعد الدعاية الكثيفة التي تخبطوا فيها بعد انقلابهم الثالث و انقلابنا المدني الأول.

الهزة العنيفة أو الانقلاب المدني الأول

قلنا سلفا أن العسكريين أرادوا أن يلعب "سيد" دورا محددا، لكن الرجل بدأ في الخروج عن السيناريو بدأ في هز كتفيه كلما ألقوا عليه موعظة خشنة قائلا: أتركوا أمر السياسة لي وقد تركت لكم أمر الأمن و الجيش.
لم يكتف سيد بالخروج عن السيناريو بل ألقاه في وجوههم كما ألقي موسى عصاه ، و فعل فعلا لم يسبقه له أحد في تاريخنا السياسي المعاصر : إنه الانقلاب المدني الأول ( كان بيانه الأول مرسوم إقالة الضباط و بيانه الثاني اتفاق دكار)، انقلب (الذي بدا انه ضعيف أول أمره) علي مؤسسة هو رئيسها دستوريا. فقد عزم الذي بدا انه غير قادر على تحمل ضربات العسكريين (عديمي الذوق) و التي تأتي في اغلبها تحت الحزام علي أن يزعجهم و يقص أنوفهم المحشورة بشكل دائم في صالونات القرار السياسي و مؤسساته المؤثرة. و هذا الحدث هو الأهم لرمزيته الدالة علي انه فعل تصحيحي لمسار سياسي ملئ بالأخطاء القاتلة، وبذالك وضع الرئيس "سيد" حدا للمسلسل الرديء الذي تعودنا علي سماع حلقاته المتقطعة في شكل بيانات منذ 1978 .
بعد هذا الانقلاب ( قد لا يكون مناسبا أن نسميه إنقلاب و كان من الأنسب لغويا استعمال كلمة تصحيح ، ولكن للمحاميل السيئة التي حملت لهذه الكلمة الأخيرة عدلنا عنها لكلمة إنقلاب التي تبرأ منها أهلها الحقيقيون) ارتبكت المؤسسة العسكرية فقد صعق الجنرال و انخلع قلب العقيد و سرت الرعشة إلي ما دونهما ... فلأول مرة منذ 78 يصدر رئيس مدني قرارا واجب النفاذ ، فعادت المؤسسة العسكرية تكرر نفسها في الخطيئة التي جبلت عليها ، و أصبحت متخبطة في شكل مسرحي هزيل ( حتى البيانات لم تعد هي هي) و أذاعت مرسوما ( أبان أنها حريصة علي الكرسي فقط) يقول ببطلان القرار الذي اتخذه الرئيس بإقالة أربعة من الضباط كانوا يشكلون رأس هرمها ، ثم عادت في شكل آخر تقرر ما لا تستطيع و هو "وضع حد لسلطات الرئيس المنتخب في 19 أبريل".
في هذه اللحظة بالذات بعد هذه الهزة المدنية و ردة الفعل العسكرية الباهتة أنصب النضال في مسارين :
الأول : مسار الشرعية ممثلا في الرئيس و القوي الوطنية الجادة ( الإسلاميين ، إتحاد قوي التقدم ، التحالف، عادل...) و النقابات العمالية و التعليمية الجادة.
الثاني: مسار العسكر أو مسار ردة الفعل العسكرية علي قرار إقالة الضباط و قد مثل هذا المعسكر بعض المتسيسين الجدد و فلول البعثيين ( خصوصا منظرهم الإستراتيجي ولد أبريد الليل الذي كان كاره لمرحلة "سيد" و إبان عن ذالك في مقاله الشهير "تفاديا للعار") و بعض السياسيين التقليدين بما فيها التكتل( الذي بدا مندفعا بتوجس قبل أن يحول وجهته) و بعض الزعامات التقليدية و الأحزاب الزنجية.

دخل الفريقان مواجهات عديدة و شهدت الساحة استقطابا حادا و جادا و تجب ملاحظة انه و لأول مرة تقف مجموعة من القوي السياسية الجادة ضد إنقلاب في السابق كان القوي السياسية هي التي تخطط للانقلابات و هي التي تقدم الدعم حتى دون أن يطلب منها ذالك. تسابق الفريقان علي كسب الشارع و التمثيل الدولي .
و رغم ما انزله الجنرال ( لم يكن قادرا علي أن يكون شيء آخر غير "جنرال") بمعارضيه من القمع الشديد و صل حد الضرب المبرح للنساء وسجلت جروح و كسور في أجساد الكثير من المناضلين و سجلت حالات إغماء كثيرة و كذالك حالات اعتقال . رغم كل ذالك أبان المعارضون عن شكيمة قوية في الدفاع عن الديمقراطية، وابتدعوا وسائل جديدة في ذالك.
في أتون تلك المعركة أستنجد الجنرال بالقذافي فانجده صلاة في أنواكشوط و دعاء ب 6/6 ، رغم ذالك استطاعت الجبهة و التكتل ( لم يلعب دورا كبيرا في الدفاع عن الديمقراطية و إن لعب دورا مهما في نزع الشرعية عن انتخابات 6/6 بعدم مشاركته فيها وقد دفع ثمن ذالك) أن يحافظا علي سخونة المعركة و علي وتيرة من التظاهر و الاحتجاج أقضت مضاجع الجنرال و ودفعت الأطراف الدولية إلي الضغط باتجاه توقيع اتفاق داكار 02-06-2009 .

نحو إكما ل الشوط

جاء اتفاق داكار انتصارا ( و إن بدا دون المطلوب) للجبهة و ما تمثله من دعوة لتمدين الحياة السياسية و إبعاد العسكريين عنها . و لكن في الصميم نستطيع القول أن هذا الاتفاق لا يستحق إلا أن يكون احدي الأشواط الواجب قطعها باتجاه القطيعة الكلية مع العسكريين في الحياة السياسية، وبمقدار ما شكل هذا الاتفاق انتصارا للديمقراطية و تمدين الحياة السياسية شكل انتكاسا للعسكر و "المتسيسن الجدد " الذين يمارسون السياسة تحت الطلب و دون قناعات واضحة أو برامج معلنة و دون حتى إطارات سياسية و فكرية ثابتة.

هذا النجاح المرحلي الذي حققته الجبهة تمثل في :
1- العودة الرمزية للرئيس و هي عودة لها دلالتها السياسية و القانونية و قيمتها النفسية و المعنوية
2- العودة إلي التوافق و كسر الأحادية العسكرية المقيتة
3- إفتكاك بعض عناصر القوة ( وزارات سيادة ..) و الخروج بحكومة وحدة وطنية لأول مرة في تاريخ البلد .
و نستطيع الجزم الآن أن الجبهة في مفاوضات داكار كانت حريصة فقط علي أمرين عودة الرئيس و ضمان شفافية ما سيجري من انتخابات و ذالك ما يفسر تركيزها علي وزارة الداخلية و الإعلام و المالية و إن كنا نزعم أن المالية لا شيء فيها فقد توقف الدعم الخارجي منذ مدة و أستنفذ الجنرال ما كان هنالك في حملاته الانتخابية و مهماته الخارجية الفاشلة و دعايته الإعلامية .
ومع ذالك تجب ملاحظة أن هذا الانتصار تحقق بتوفر معادلة عريضة و متعددة العوامل فقد اجتمعت لها العناصر التالية كعناصر قوة و إن خذلتها العناصر المادية و المالية:
1- الانتصار للديمقراطية كقيمة عالمية
2- الدماء الشعبية للإسلاميين و الحر التي شكلت عنصر التظاهر الأول
3- البرلمانيون الذين صبروا علي اللهب و عن الذهب
4- السند الإعلامي ( تقدمي ، من اجل موريتانيا، البيانات ، الكتابات علي الجدران ، بعض القنوات الفضائية..)
5- الفعالية في الاتصال الدولي و عدم ترك الساحة للجنرال

خاتمة: نحو القطيعة التامة

رغم إدراكنا انه ولأجل القطيعة التامة مع عهود الانقلابات لا بد من "هزة عنيفة"، فتراكمات الماضي السياسي أتاحت لإختلالات بنيوية كبيرة أن تنمو و تستحيل إلي حالة استقرار موهوم . تتجسد في تحالف العسكريين المتسيسين مع من باعوا قناعاتهم الفكرية و السياسية باكرا ، و إضافة إلي أطراف أخري حمت ظهر التحالف عبر سيطرتها علي المال و حركته . (سنفرد لها مقالا إنشاء الله).
و الناظر اليوم بعين لا يعلوها قذي يدرك أن تحديات إستراتيجية بدأت في البروز نستطيع إجمالها في العناصر التالية :
1- تراجع مفهوم الدولة و قناعة المواطن بها (لأن المواطن أصبح لا يري إلا الصراع علي الدولة بالانقلابات و الانتخابات، دون أن تقدم له ما يجعله يتعلق بها)
2- الهجرة السرية
3- التوارك و الصراع علي الحدود مع مالي
4- الإرهاب في الداخل و علي الحدود
5- تزايد العمالة الإفريقية بشكل مخيف
هذه الخماسية تشكل تحديات إستراتيجية (للمزيد أنظر مقال ولد أبريد الليل : التحديات الإستراتيجية للديمقراطية الموريتانية ) تجعل من وضع حلول غير مرتجلة ( إستراتيجية) لها أمرا لا مفر منه لاستقرار الدولة و نموها.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!