التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:06:46 غرينتش


تاريخ الإضافة : 14.07.2009 11:02:05

صراع "العقيد" و "الجنرال": من الوارث؟


خلاصة : يرمى هذا المقال السياسي التحليلي لتجلية حقيقة جزء من المشهد السياسي الوطني اليوم بالنظر إليه من زاوية تحليلية مفارقة لنمط التحليل السائد المكتفى بالقشور والمعتمد على الدعاية بالدرجة الأولى، والمأسور للمدرسة التقليدية في التحليل السياسي، إنها قراءة تحليلية "في الصميم" ، حيث المسكوت عنه سياسيا و حيث الفعل السياسي على قوته و عنفوانه ، هنالك حيث يحسم الجزء الأكبر من المعركة قبل أن يتفنن المخرجون في إخراجه بالماكينة الانتخابية تارة و بالانقلابات تارة أخرى. هنالك (أي في الصميم) تحتدم معركة انتخابية ويدور صراع سياسي سوف تحدد نتيجته – بلا شك- المصير الإستراتيجي للبلد.

في الصميم

منذ سقوط "ولد الطابع" (وليس نظام ولد الطايع) دارت رحى السياسة الموريتانية دورات عدة في محاولة (يائسة ربما) للإجابة على سؤال مركزي واحد : من هو وارث "ولد الطايع" على رأس نظامه ؟

ونستطيع الجزم اليوم أن مخاضا عسيرا (قد لا يفضى إلى نتيجة حاسمة) يعيشه ذالك النظام الذي بدا لأول مرة مقطوع الرأس وفاقدا لمركزية الرجل القوي أو لنجيز لأنفسنا استعمال كلمة "القطب" الذي تدور عليه رحى السياسة الموريتانية حتى الذين يفترض فيهم الخروج عن قبضة النظام (أي المعارضة) أستطاع –ذالك النظام- بنظرية سياسية إستباقية ماهرة أن لا يجعل لهم من المفر إلا الاحتماء بردة الفعل السياسية.

"ولد الطايع" رئيس مكيافيللي بامتياز، تعود على أن لا ينام دون إن يتصفح "الأمير" ويضعه تحت وسادته ، ليقرأ ما تيسر منه في الصباح ، رئيس يمد "الجزرة" دون أن يكف عن التلويح ب"العصا" ، يوزع المال و التعيينات ويمنح القوة و النفوذ السياسي ، دون أن يسد باب السجن أو أن يكف عن ابتداع وسائل المضايقة و الحرمان بل و حتى التخويف و الإرهاب.

تركة "ولد الطايع" كبيرة أي أنها -كما هو واضح- نظام بحجم دولة بل تتضاءل الدولة أمام النظام في لحظات عدم التماهي بينهما ، ذالك أننا في بعض الأحيان نعجز عن الفصل بينهما ، لكن مشكلة هذه التركة ليست كبر حجمها بقدر ما تتمثل في كونها لا تقبل القسمة على اثنان أو أكثر إنها لواحد فقط ! لكن من هو ذالك "الواحد" ؟

حاول "العقيد" أن يتقمص ذلك الدور(أي دور الوارث)، وأتاحت له التربية الطويلة في حضن "ولد الطايع " أن يبدو كذلك لكن مشاكسات "الجنرال" ( لم يكن سوى عقيد آنذاك ) وزميله لم تترك "العقيد" يخرج عن سيناريو المرحلة الانتقالية الأولى .

كانت فترة "سيد" هي الأقسى على تركة "ولد الطايع" , فالرجل يختلف تماما عن " ولد الطايع " ولا يريد أن يرثه ،فقد بدأ في الخروج منذ اليوم الأول لانتخابه عن إحدى أهم القواعد السياسية بل وأكثرها حساسية وذلك بتشكيله لحكومة تكنوقراطية وهو ما يعيني سياسيا (على الأقل) عدم صيرورة العمل السياسي الانتخابي إلى تمثيل سياسي ( وزاري أو إداري).

أما "الجنرال" فبقدر ما هو معجب بـ " ولد الطايع " بقدر ما يريد لنظامه الاستمرار ولكن وفق أدوات جديدة ، إنه يريد أن يبدو كالإصلاحي المنقذ دون أن يثور على قواعد اللعبة ، يتعامل مع نظام "ولد الطايع" كما تعامل "ولد الطايع" مع نظام "هيدالة " ، إنه يثور من داخل النظام ليستمر النظام ولكن وفق لعبة جديدة .

"العقيد": عقلية رجل الأمن وهدوء السياسي

" العقيد" رجل مهووس بالسلطة، يميل إلى الاستقرار، أدار كل الملفات الأمنية منذ 1985 (تاريخ تربعه على رأس المؤسسة الأمنية في البلد) بما فيها الملفات الأكثر حساسية ( ملفات الزنوج والفساد المالي والاقتصادي، وقمع الحركات السياسية...)، استطاع في تلك السنوات على رأس إدارة الأمن أن يتمدد باتجاه السوق لبناء ذراع مالية ضاربة عمادها عدد من رجال الأعمال الصغار والكبار و الشركات -أغلبها وهمي- (لامتصاص موارد الدولة بإحالة مشاريعها الكبرى لهذه الشركات الوهمية) ، و العقارات و مئات الآلاف من رؤوس الماشية و إثقال كاهل المواطن بالإتاوات و المكوس ... الخ و بذالك بني إمبراطورية مالية ضخمة ( ضاعفها أثناء إدارته للفترة الانتقالية حيث شهدت الدولة في تلك الفترة عجزا ماليا قدر 14 مليار أوقية ) . إلى ذالك راكم "العقيد" خبرة سياسية راسخة ومعرفة اجتماعية قوية ، ويبدو أن "ولد الطايع" كان راضيا عليه وهو ما أتاح له البقاء رغم الصراع الذي كان دائرا بينه وبين دداه ولد عبد الله ومحاولة كل منهما إزاحة الآخر.
يعتمد العقيد في أدائه السياسي على الطبقة السياسية التقليدية التي اعتمد عليها نموذجه الاعلى "ولد الطايع" فهو يفضل التعامل معها ويفهم عقليتها، وهي في معظمها أبناء حركات سياسية باعت قناعاتها الفكرية، و شيوخ قبائل ، وزعامات صوفية وشخصيات مرتبطة تقليديا بالسلطة .....، مع انه يطعم هذا اللفيف السياسي ببعض الشباب دون أن يكون اعتماده أساسيا عليهم .
والعقيد يحب الظهور ويحتكر (دون العاملين من حوله) المقابلات التلفزيونية والصحفية على كثرتها و يعتمد صناعة الصورة السياسية عبر الوسائل الإعلامية ( أنظر صور تنازله المزعوم عن الحكم وذهابه حتى منزله ، مثلا) ، ورغم انه محب لظهور الإعلامي فإن أداءه السياسي أقرب إلى الأداء الأمني الصامت منه إلى السياسي المعلن.
كذالك يحظى "العقيد" بقبول دولي كبير ( ولا سيما في فرنسا ) وقد استفاد من الدعاية الإعلامية التي أظهرته كصانع للديمقراطية الموريتانية ، وذلك القبول هو ما يفسر كثرة أسفاره ولقاءاته المتكررة مع المخابرات الفرنسية ولكنه أيضا ، فقد الكثير من الألق والبريق السياسي و الإعلامي بعد صمته عن الانقلاب الأخير(كيف يصمت أب عن وئد ابنته ؟ إن كان أبوها حقا ) ، فقد غلب على موقفه "الحذر الأمني" وبدأ يدرك اليوم بعد فشل الانقلاب انه كان بحاجة لموقف سياسي واضح ورافض للانقلاب ( بدا ذلك واضحا في مقابلته مع الجزيرة التي حاول فيها ادعاء النضال والوقوف ضد الانقلاب) .

"الجنرال": عمق الشعار وسطحية الفعل

لا يمتلك الجنرال حنكة السياسي ولا قدرته على المناورة ولا حتى صناعة الدعاية الإعلامية، رغم انه حاول أن يصطنع لنفسه الكثير من الألقاب ( رئيس الفقراء على سبيل المثال ) ، لكن تلك الدعاية ربما لم تجلب له من الأنصار بقدر ما أخافت المحيطين به .
يعتمد الجنرال على جيش من "السياسيين الجدد" وهم في معظمهم عديمي الخبرة السياسية من حيث هي فكر وممارسة ، وحتى من حيث هي دعاية وقدرة على جلب الأنصار ، وهم بخلاء في توزيع العلاوات (لا تعرف أيديهم الحركة باتجاه جيوبهم ) وكانوا يفضلون أن يسير الجنرال في طريق 6/6 لأنه الطريق السالك والآمن بالنسبة لهم ، أي أنهم لن يبذلوا فيه مالا ولا الكثير من الجهد . عندما يجمعك الحديث مع أحدهم تستغرب كيف أتيح له أن يكون سياسيا معروفا على نطاق واسع؟ ، بل كيف استطاع أن يكون وزيرا أو برلمانيا ؟ ، فهو نموذج جاهز "للديماغوجية" و"الارتباك السياسي" ، يقضي نصف وقته في اصطياد الحرام والنصف الباقي في جلسات السمر الفارغ من أي معنى سوى انه رجل مغرور لا يدرك حجم العمل الذي عليه القيام به .
و"الجنرال" على عكس "العقيد" لا يحب الظهور الإعلامي ويتيح لمن حوله الظهور والتحدث باسمه وهو إلى ذلك كله يمتلك إمبراطورية مالية شديدة الثراء ( شركات ، عقارات في الداخل والخارج ، موردي البضائع ، عيادات ، أموال سائلة ... ) .

دوائر التشابه بين "العقيد" و"الجنرال"

يتشابه "العقيد" و"الجنرال" في العديد من الدوائر السياسية والمالية والأمنية ، فهما ربيبا نظام "ولد الطايع " مما يعنيه ذلك من التأثر بالرجل وطريقته في الحكم وقبل ذلك أبناء نفس المؤسسة العسكرية ويرنو كل منهما إلى أن يكون وارثا لذلك النظام، إلى ذالك يتشابه الرجلان إلى درجة التطابق في كون كليهما يمتلك إمبراطورية مالية كبيرة وجيشا من المخبرين الأمنيين ( ربما يعمل أكثرهم بشكل مزدوج ) ، ويمتلك كل منها عناصر قوة في جسم الدولة وإن بدرجات متفاوتة ، لا يختلفان في برنامجهما السياسي وإن اختلفت شعاراتهما ، فكليهما يريدان لنظام ولد الطايع أن يستمر ، "الجنرال" يريد ذلك بوسائل جديدة ، و" العقيد " محافظ ويريد ذلك بنفس الفلسفة والوسائل الطائعية .

دوائر الصراع بين "العقيد" و"الجنرال"

علينا أن نقرر في البدء أن مساحات الصراع بين "العقيد" و"الجنرال" لا تختلف كثيرا عن دوائر التشابه بل قد تكون هي ذاتها في كثير من الأحيان ، كذالك علينا أن نقرر أن الجنرال لن يؤتى من طرف الجيش ( أي السلطة ) على الأقل في معركة "يوليو الكبير" . المعركة الكبيرة ستدور على أربع مستويات وهي المعركة التي نعتقد أنها سوف تحسم لصالح طرف ثالث غير "العقيد" و"الجنرال"، (وهذا ما سنتعرض له في الخاتمة). فرغم أن "الجنرال" يبدو الأوفر حظا لأنه الأقرب إلى السلطة بل هو مرشح السلطة فإن "العقيد" يتحرك بشكل كبير وصامت ويحصد كل يوم مزيدا من الأنصار، وقد قام بجولة في الداخل وهو في هذه الجولة يتحرك على بينة يزور العناصر المأثرة في المجتمع ( شيوخ قبائل ، أطر ، نفعيين ... ) .

سوف تحتدم المعركة بشكل مخيف في أربع مستويات هي:

- القاعدة الشعبية المحسوبة على السلطة تقليديا:

هذه القاعدة التي أستطاع "الجنرال" توسيعها لصالحه بخطابه المركز حول الشرائح الفقيرة و المعدمة وهي عناصر يدرك كل من يعيش المعركة اليوم أن "الجنرال" قد أثر عليها بخطابه خصوصا في الأعماق الموريتانية و بتوزيعه للغذاء ("الحوت" أساسا ،حتى في خضم الحملة الانتخابية لا زال يوزعه ) ، هذه القاعدة سوف لن تشهد استقطابا حادا وهي ربما المستوى الأخير من مستويات الصراع ولكن رغم ذالك لا يزال "العقيد" يمتلك نفوذا فيها قد يكون في مستوي الربع لكنه ولاعتبارات المستويات الأخرى لابد من ذكره.

- البيروقراطيين :هذه الطبقة هي الأكثر فسادا و الأقدر على الفعل السياسي رغم انه يفترض فيها المهنية وهي أيضا القادرة على ابتلاع كل الأقراص، ويبدو "العقيد" أقرب إلي هذه الطبقة من "الجنرال" ، ذالك أن "الجنرال" مزاجي لا يحب الاستمرارية و لا الهدوء ، أنه سريع الغضب و الانفعال كاره للرسميات و التخطيط، انه متخبط يأمر فقط لا يدرس لا يستمع للشروحات (قصة إسكانير شاهدة) ، البيروقراطي شخص هادئ بشكل ممل ، يقضي نصف وقته خلف المكتب ، يتكلم بشكل هادئ و مغرم بالتفاصيل ، ولذالك يجدون في "العقيد" شيء من تلك الصفات ، و المهم هنا ليس أصوات البيروقراطيين في ذواتهم بل ما يمثلونه من امتدادات سياسية و قبلية و جهوية ، فكل بيروقراطي له امتدادات مجتمعية أقلها العاطلون الذين يحيطهم برعايته.

- المخابرات: هنا يجد "العقيد" نسبها الخدمي ،هنا يشعر بالراحة رغم أن كلمة المخابرات عادة لا تشعرك بالدفيء حينما تنطقها ، ف"العقيد" هنا بالضبط على معرفة شخصية وقدرة على القراءة و التحليل و الضغط (بالمناسبة الضغط موجود) ، وعلاقة المخابرات بالسياسية و المال علاقة ترابط و تلازم منذ العصور الأولى ،حينما عرف الإنسان كيف يمشى بالوشاية لأجل المال و السلطة.
رغم ذالك لا يشعر الجنرال هنا بالخوف، أو على الأقل لا يعتقد أن الرصاصة القاتلة ستأتي من هنالك، أنه متخوف بلا شك لكنه ليس خائف، لأن المخبرين يؤدون وظيفتهم ضمن السلطة و هو مرشح السلطة .

- المال: إذا كان الماء عصب الحياة فإن المال عصب الانتخابات و هنا بالتحديد على المستوي القطاع المالي في الدولة تدور المعركة الانتخابية الأهم دون أن يراقبها أحد ، هكذا تمر ببساطة أحداث جسام من الطراز الذي لم تشهد له الساحة مثيلا ، فلأول مرة يتبجح رأس المال دعما لمرشح من خارج السلطة ، عادة رجال الأعمال يدعمون مرشح السلطة لأنه قادر علي الإضرار بمصالحهم ، في هذه الانتخابات نشهد لأول مرة تبدلات في هذا الموقف ، فالمال القادم من آدرار اتجه جنوبا إما بشكل واضح و متبجح أو مشيا على استحياء ، و المركز الثاني من حيث المال (أي إنشيرى) تشهد تحولات جوهرية في موقف رجال المال لكنها تظل مخبوؤة نتيجة للخوف ، فالثلاثة الكبار (داداه،عزيز،أعل) مدعومون بشكل قوي من ذالك المال لكن خلسة.

اللاعب الخفي

هنالك خيوط سياسية تتحرك بوتيرة مضبوطة و بشكل خفي مندس أحيانا ولكن تسفر عن نفسها في مواقف معلنة في أحيان أخري ، مما يتيح لنا الاعتقاد أن هنالك من يحرك تلك الخيوط بقصد ما.
فالصراع المحتدم بين "العقيد" و "الجنرال" يسمح لنا بالاعتقاد أن يوم "بعاث" جديد قد حان و أزفت ساعته ، ذالك أن هذا الصراع هو الأول الذي يتعرض له هذا النظام منذ تأسس و أنبنى على مركزية شديدة لرجل واحد ولم يعرف الصراع (على الأقل في مستوياته العليا) وظل سمت الطاعة رغبة أو رهبة هو سمته، يوم "بعاث" هو يوم شهدته المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم دارت فيه معركة بين الأوس و الخزرج (صراع سياسي بين عصبيات تريد كل منها الغلبة) و قد أتي ذالك الصراع على رؤوس الفريقين ولم يبق إلا الشباب مما جعل ذالك الشباب المتحرر من إرث الماضي ينصر النبي صلى الله عله وسلم ويبايعه ويكون الخطوة الأولى في مشروع دولة جادة تسودها القوانين لا الأهواء.
لسنا عاجزين أيضا عن الجزم أن هذا "اللاعب الخفي" ماهر ويتحرك بدقة ويبدو انه أيضا يمتلك نفسا انتقاميا، و يرنو لركل "العقيد" و "الجنرال" على جانب المشهد السياسي حيث الهامش يتسع و لقب "السابق" يجمع. في الشوط الثاني من مشهد انتخابي (غير انقلابي) في مطلع أغشت 2009 سوف يتحدد مصير البلد الإستراتيجي.


محمد سالم ولد أحمد
[email protected]



Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!