التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:04:25 غرينتش


تاريخ الإضافة : 01.08.2009 18:05:10

هل تكشف الحملات الانتخابية الوجه الآخر لموريتانيا ” لفريگ” ؟: 1-2

بقلم : المرابط ولد محمد لخديم



كانت الجماهير تلتف حول قادة كانوا محور الحركة السياسية والأحزاب. وكان هؤلاء يوحدون قطاعات من الجماهير, ولكن ضمن إطار عاطفي والتزام معنوي عام...
ومع دخول موريتانيا هذه التجربة الديمقراطية الغير مسبوقة اختلطت الأمور جملة وتفصيلا على الفاعلين السياسيين وهم مجموعة فسيفسات من الأحزاب والحركات القومية والإسلامية والديمقراطية.وقد نتجت هذه التجربة عن مخاض عسير كاد يعصف بالبلد إلى المجهول لولا تدخل أطراف من الخارج, وتقبل الفرقاء لسياسة الواقع.. على أننا سنقتصر على دراسة هذه القضية علميا واجتماعيا. فقط مستبعدين الجانب السياسي في الوقت الحالي على الأقل كي نصل إلى نتيجة...
لقد كتبت سابقا دراسات ومقالات حاولت من خلالها أن أقدم تصورا ولو بسيطا عن مجتمعي الذي وجدت نفسي فيه وقد أخذت منى هذه الدراسات الكثير من الوقت وبعد جهود مضنية من البحث والمتابعة في بلد يفتقر لأدني وسائل البحث الحديثة توصلت إلى تصور ترجمته في كتيبات ومقالات مثل: (مجتمع البيظان بداة في الحضر) وثقافة التحصيل بين الشناقطة الأوائل والشناقطة الجدد...(وموريتانيا وثقافة لفريك).. و(ديموقراطية لفريك بين الفعل وردة الفعل) ..وأخيرا وليس آخرا (موريتانيا بين الغزو التقليدي والغزو الذاتي..) ولكن كل مناسبة تأتي بحقائق جديدة, تجعله جديدا دائما.
ونحن إذا نظرنا إلى هذه الخيام كمنطلق لهذا المقال, فإننا نجد كثيرا من التسلية وقليل من السياسة, وقد لا يعرف أحدنا أوكلنا ما معني الغناء الذي يعتبر وقود هذه الحملات الانتخابية في تلك الخيام على مدار الساعة...
مما لاشك فيه أن الشعر الموريتاني عامة والعامي الحساني خاصة كان ديوان المجتمع الموريتاني, ومستودع أخباره ومعدن علمه, وسجل حكمته في ظل ظاهرة الحفظ والتلقين في غياب التدوين, كما كان لسانه الناطق باسمه, وعريضة شكواه, ورسالة شكره, وبرقية تهنئته ووثيقته التي خلدت كثيرا من تقاليده وعاداته وصراعاته وآراءه الفكرية والأدبية والسياسية والاجتماعية.
وقد يكون الشعر الحساني أقوى فتكا وأنكي في جلسات اللهو والطرب والغناء وهذا ما نشاهده الآن, حيث يكون المرشح الفلاني مْفجر للمساجلات والمطارحات الشعرية التي تتحول -أحيانا- إلى نقائض هادفة أو فاحشة ساخنة تؤججها أطراف أخرى منحازة, أو معارضة لهذا أو ذاك من الشعراء الحاضرين, مما يحفز على التجويد حبا في التفوق الأدبي والفوز بإعجاب هذا الناخب أو ذاك..
ولما كانت مشاعر الإنسان واسعة جدا واللغة ضيقة فقد استعان الإنسان منذ أقدم العصور بشيئين حتى يتحايل على اللغة ويوسع من مدلولها قدر الاستطاعة.
الوسيلة الأولى: الغناء؛ فالإنسان الذي يغني تطوف بمشاعره معان وخلجات وأحاسيس يستنجد باللغة ويعتصرها للدلالة على المعنى الذي يريده فلا يجد ما يطمح إليه. لذا يستعين باللحن وبالنغم يتأوه ويودع مشاعره ليتمم ما عجزت اللغة عنه ويتضح هذا بالنسبة للمستمع عندما يطرب لأنه شعر بالمعاني الكامنة بين جوانحه والتي عجزت اللغة عن التعبير عنها فتفاعل معه في هذا الشعور.
إذن الغناء إنما وجد ومنذ أقدم العصور لكي يتحايل الإنسان بواسطته على اللغة فيوسع من اللغة عن طريقه وعن طريق اللحن، والشجو، وما إلى ذلك ( وهذا هو عجز الإنسان أمام اللغة من باب التصوير ).
الوسيلة الثانية: التي استعان الإنسان بها وتحايل على اللغة عن طريقها،هي وسيلة المجاز: الاستعارة، التشبيه، الكنايات..
المجاز؛ هو تعبير بأشياء خارجة عن دلالات الحقائق, لأن لغتنا ضيقة فتحايلنا عليها عن طريق إختلاق صور من المجاز، تقول: سال الوادي، الواقع أن الوادي لم يسل، الماء هو الذي سال...لكنني عندما أنظر إلى هذا الوادي وقد اهتاجت المياه في داخله وأصبحت تتدفق أنظر وأجد أن الوادي هو الذي يسيل هذا الشعور كيف أعبر عنه، أتحايل عليه وأجد المجاز أصبح بابا واسعا جدا أضاف إلى اللغة لغة أخرى وقد قلنا آنفا، إننا لما كنا مصروفين عن الحقيقة الواحدة إلى مجازاتها التي لا تنتهي بحكم أنها تقع منا في نهاية طريق لا نهاية لها، وليس لنا إلى أن نقترب إليها بمجازاتها ليحقق كل فرد ذاته، بما يختار من هذه المجازات، التي تصدر عن رحم هذه الحقيقة الواحدة وترتد إليها، وهذا ما يحقق للإنسان إنسانيته ليحيا حريته واختياره اللتين يقوم عليهما وجوده إنسانا حرا مختارا.
يقول المعري:
لا تقيد على لفظي فإني مثل غيري تكلمي بالمجازي
ونأمل أن يكون ما تقوم به موريتانيا حاليا من انتخابات غير مسبوقة بالمقارنة بانتخابات الدول الأخرى وخاصة الدول العربية مثالا يحتدا به في المنطقة, لما تتمتع به هذه التجربة من تنوع لجمعها لكل شرائح المجتمع تحت قبة واحدة , ستمكن الباحث من المقارنة بين الطرفين للخروج بصياغة معقولة, تكون أساسا يمكن أن تبنى عليه هذه الدولة الفتية, التي مازالت تبحث عن نفسها. وكم كانت مفاجئتي وأنا أتصفح تلك الكتابات الكثيرة وأستمع إلي خطابات المترشحين الذين سيحكمون هذه البلاد خلوها من أي موضوعية لاتخاذها الشائعات والأراجيف منطلقا لهذه الكتابات وتلك الخطابات وغاب عن هؤلاء أو تناسوا أن الشائعة عادة ثقافية متداولة لدى فئات عريضة من الشعب الموريتاني, يجد فيها البعض التأثير على الأحداث في مجتمع يهتم كثيرا بالقال والقيل..خاصة بعد توفر وسائل خطيرة مثل الموبايل والانترنت..ووجود ساحة خصبة لهذه الشائعات...
والشائعة حدث أعيد إنتاجه عدة مرات وخطورتها أنها لا تعتمد على مصادر مباشرة موثوقة تأتى عادة لتغطى فراغا معرفيا تعذر سده بطرق السليمة. ولهذا فإنها تنتشر في المجتمعات التي لا تتوفر على طرق شفافة ومحايدة لتناول المعلومات الصحيحة حول الأحداث التي تهم مجتمعنا, الذي ينشد لدى مفكريه وكتابه مستوى من المبادرة الجادة والإخلاص, ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره فإذا هم لا يزيدون على ما يسمى بكتابات الشائعات السابقة. وهذا ربما ناتج عن غياب الأكاديميات ومراكز البحوث الإستراتجية ومن المفارقة هنا أنك قل أن تجد في العالم مؤسسة علمية أو معاهد متخصصة إلا وفيها باحث أو خبير موريتاني..فلماذا لا تستغل هذه الطاقة وتعاد الثقة في الثقافة، والمثقف، والاستفادة من أصحاب العقول، وتوظيفها، وتنميتها، ومساعدة أصحابها، على النهوض والتغلب على العراقيل التي تعترض سبلهم.
ولا شك أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى النهوض بالبلد، وجعلها في مصاف الدولة المتقدمة، فالمواهب ثمينة جدا، وجديرة بالتشجيع، والتنمية، كائنة ما كانت، ولا ينبغي إهمالها، ولا تجاهلها، سواء كانت فنية، أو أدبية، أو علمية.
فالإنسان الموهوب، أكثر فائدة لنفسه، ومجتمعه، من ملايين البشر، ممن لا يتمتعون بالموهبة. فمن غير المعقول معالجة الملفات السياسية، والاقتصادية، كما يحدث في كثير من الدول النامية ومن بينها بلدنا بدون ركائز ترتكز عليها..
والثقافة للناس أشبه بالسلاح للمقاتل الذي يمنح لصاحبه معنى من القوة والمتعة لا يجده في غيره.وعلى ذكر الثقافة، فإن مجتمعنا توجد فيه نسبة كبيرة من المثقفين ذوى الاختصاصات العالية، ونخب من الحاصلين على جوائز شنقيط التقديرية والتي تعتبر أعلى درجة علمية في الدولة. وقد كونوا آنذاك تجمعا، على شكل نادي أسموه المرصد الموريتاني للعلوم والثقافة، ورفعوه إلى رئيس الدولة آنذاك ظنا منهم أنهم سيشكلون مجلسا استشاريا، كما هو حاصل لنظرائهم في العالم، ولم يلبى طلبهم مما كون لديهم قناعة، أن الثقافة غير مرغوب فيها في موريتانيا، عكس البلدان التي أتوا منها، وهذا ما أدى إلى غيابها من الساحة الوطنية.
والثقافة في نظرهم هي تلك التي يعتز بها أهلها، ويدافعون عنها ما داموا يشعرون بالوظائف الإيجابية التي تقوم بها، وتؤديها في حياتهم، وهم يمثلون جميع فروعها، من دراسات إسلامية، علوم، وتقنيات، وآداب، وفنون...
ومما يؤكد هذا الشعور ما حدث لنا شخصيا عندما تبنينا كجمعية طباعة ونشر هذه الإصدارات المتميزة وبعد حصولنا على موافقة المؤلفين, ومجلس جوائز شنقيط, واتصالنا بجهات ممولة عربية ودولية, وأبدت استعدادها للتمويل. مع احتفاظ هذه الجهات بجميع الحقوق. عندها أرسلنا رسالة إلى رآسة الجمهورية بصفتها الوصية على هذه الجائزة، ثم رسالة للوزير الأول رقم 1، ثم رسالة للوزير الأول رقم2، ثم رسالة للوزير الأول رقم3 ثم لوزرائهم للثقافة، والتعليم، نشرح من خلال هذه الرسائل، الفوائد المادية والمعنوية التي ستجنيها الدولة على المدى القريب والمتوسط..ناهيك عن المدى البعيد, بعد خسارتها لثروة مماثلة في السابق لمؤلفات شناقطة أجلاء: آب ولد أخطؤر..ولد أتلاميذ وغيرهم..لصالح دول شرق أوسطية وخليجية..
وإذا نظرنا إلى هذه الإصدارات والتي بلغت منذ 2001 وحتى2008م، 31عنوانا، فإننا نجدها تشمل جميع مجالات المعرفة:
-الدراسات الإسلامية: فقه, عقيدة, أصول, فكر إسلامي...الخ -
- العلوم والتقنيات: رياضيات، فيزياء، طب, كيمياء، بيوكيمياء، بيولوجيا....الخ
- الآداب والفنون: شعر, رواية, دراسات اجتماعية, نحو, تاريخ... الخ
وبهذا تكون موريتانيا عطلت هذه الثروة الهائلة بقصد أو بغير قصد،ولم تستفد من خبرة أبنائها الذين حباهم لله بموهبة فطرية قل نظيرها، تعودت الدولة بعدم الاعتراف بها إلا عندما تبرز على الصعيدين العربي والدولي, ولعل هذا ما جعل جائزة شنقيط بلا قيمة معنوية، حيث حصرت الهدف منها بتسليم الجائزة تنتهي الحاجة إليها وتبدأ القطيعة معها بالحصول على الجائزة المادية فقط.
وحدث أن وجدنا تفاصيل في هذه الحملات أزعجتنا كثيرا.. ففي لقاءات عفوية قلت على سبيل التعجب أن مصاريف سهرة لليلة واحدة, تكفى لنشر أكثرية هذه البحوث. مع الفارق في أن مصاريف هذه الليلة ستنتهي وتنتهي بعدها الحملة محليا, أما هذه البحوث فسترفع اسم موريتانيا عاليا في جميع أنحاء العالم عبر مئات السنين..وأثناء مناقشتي تلك انبرا لي أحد أولائك الذين يفهمون في هذه الأمور كثيرا قائلا: إن مصاريف الوزارات المعنية بالتعليم, والثقافة, والبحث العلمي, بمئات الملايين ولكنها توجه لأمور أخرى..
عندها تركت المجلس وحاولت أن أعيش بفكري وقلبي وجسدي ـ جميعا ـ عشت بعقلي الباطني وعقلي الواعي، استعدت ذكرياتي القديمة، منها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت ذكريات تختلط بواقعي، فتبدوا حقائق حينا، ورموزا حينا، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي كنت دائما في كامل وعي. أخذتني الرهبة والخشوع عندما كنت وحدي، وكنت في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد. ... وجدتني أردد بلا وعي ما يقولونه فالمرء كما يقول ابن خلدون ابن بيئته ... ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وان كنت في صحبتهم... كنت شخصية واعية بلا كلام وشخصية متكلمة بلا وعي..
كانت الشخصية المتكلمة بلا وعي تردد كلامهم وتستنكر مايقولونه.. وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تعيش تجارب الشناقطة الأوائل الذين اهتموا بالوقائع والمستجدات اهتماما كبيرا جعلهم يسعون إلى تكيف العلوم والمعارف مع مجتمعهم وحياة أناسهم فسايروا بذلك مختلف الأحداث مستجيبين للبيئة وخصوصياتها, فردوا على أهم الإشكالات التي وردت عليهم. فكانوا كلما استفتوا عن النوازل أفتوا وأفهموا وبينوا.
وتبحث عن جسور تواصل بين ثقافة الشناقطة الأوائل والشناقطة الجدد.
الذين كانوا يتبعون طرقا تنطلق من مبدأ الإحاطة الشاملة التي تذكيها إرادة صلبة في مقاومة جميع الظروف المعيقة للتعليم والتحصيل، لذلك كانوا يستظهرون كل المتون التي تقع في أيديهم بغض النظر عن موضوعاتها، على الرغم من بداوة الحياة وشظف العيش وانعدام المؤسسة المركزية، فقد حصّل الشناقطة علوما ومعارف كثيرة شملت مختلف جوانب الثقافة العربية والإسلامية ، تجاوزتها أحيانا لتجيب على ما تطرح الحياة الشنقيطية من جزئيات ونوازل كان العقل يجتهد في صياغة أجوبة عنها معتمدا على معارفه، منطلقا من أصله الشرعي وآليته العقلية في قياس الشاهد على الغائب، وتعتبر النوازل والفتاوى حقلا معرفيا غنيا بالدلالات والرموز، لذلك اعتني الفقه الإسلامي كثيرا بأمرها إلى درجة أن البعض اعتبرها كاشفا مهما لخفايا الأمة وأسرار الشعوب بل مصدر من مصادر التاريخ الإسلامي فالنوازل هي: العدسة الكاشفة لحياة الأمم كما أنها النافذة التي يطل من خلالها على صميم المجتمع حتى يستطيع الغوص إلى أعماقه والنفاذ إلى كنهه كما كنت من جهة أخرى أحاول إعادة مشهد من مجالس هؤلاء الأعلام ومقارنته بمجلسي السالف الذكر, يقول سيدي محمد بن الشيخ سيدي:
وكم سامرت سمارا فتوا إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على على حسب فداسوا أديم الفرقدين بأخمصين
أذاكر جمعهم ويذاكروني بكل تخالف في مذهبين
كخلف الليث والنعمان طورا وخلف الأشعري مع الجويني
وأوراد الجنيد وفرقتيه إذا وردوا شراب المشربين
وأقوال الخليل وسيبويه وأهلي كوفة والأخفشين
نوضح حيث تلتبس المعاني دقيق الفرق بين المعنيين
وأطوار نميل لذكر دارى وكسرى الفارسي وذي رعين
وشعر الأعميين إذا أردنا وان شئنا فشعر الأعشيين
ونذهب تارة لأبي نواس ونذهب تارة لأبن الحسين
و تضحياتهم الجسام التي جعلتهم يشترون "موهوب الجليل شرح مختصر خليل" للحطاب بفرس عتيق، والقاموس المحيط بعشرين بعيرا! رغم ضيق الحال!!
ورغم هذه التضحيات التي قدم السلف نرى من الأحفاد في يومنا هذا من ينفق المليارات في السهرات الانتخابية التي نعيشها الآن. وقد لا يختلفون عن نظرائهم منذ سنوات عندما بذروا مخصصات مليارية كانت موجهة لنشر وصيانة التراث الموريتاني في مشروع الكتاب, ومشروع إحياء التراث..وقد بلغ من أحد هؤلاء الذين يوصفون بالمثقفين أن يأمر بتحويل هذه المكتبات إلى مكاتب للقضاء لولا تدخل اليونسكو بأن تلك المكتبات مسجلة عندها..وغاب عن هذا المثقف ونظرائه أن الكتب والمكتبات ستبقي شاهدة على عقوقهم لأجدادهم, وخطورتهم على الإنسانية ,ولا نراهم كونوا بهده الثروة مجدا, ولا ذكرا, غير تفاخرهم بالأجداد الذين سرقوهم, لأنه لولا إنتاج هؤلاء الأجداد ومكتباتهم لما مُولت هذه المشاريع المليارية..وتشيء الأقدار أن تكون هذه المخصصات وبال عليهم في الدنيا قبل الآخرة..وخطورة هذه المبالغ رصدها علماء الاجتماع في العالم حيث وجدوا أن التحولات الكمية, ارتفاع القدرة الشرائية، استبدال الطاقة البشرية تطور العمل التقني، تطور أنشطة الوقت الحر أنتجت تحولا نوعيا بطيئا تمثل في بروز مشاكل متعلقة بالحياة الخاصة، مشاكل حول الحياة الشخصية المستقلة, مست بالأساس الطبقة المتوسطة والعمالية، ويتعلق الأمر بتطوير ظاهرة جديدة داخل الحياة الشخصية، إنها فردنه الوجود الإنساني. حسب تعبير ادخارمور مضيفا أن خاصية الثقافة الجماهيرية تتمثل في كونها ستوفر للفئات الاجتماعية الصاعدة (طبقة متوسطة)، شباب، نساء، صورا إدراكية وقيما ونماذج سلوك جديدة أبطالها: الشخصيات السينمائية، ونجوم الموضة، ومقولاتها: المغامرة، والحرية الفردية، وغاياتها: الحياة والسعادة، والمتعة...الخ). وهذه الصور ونماذج السلوك أضحت من مكونات تفكير شبابنا الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص , ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته, فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء, واجترار بضعة خيالات محلقة في سماوات التيه, ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير, ثم يسرح بها بعيدا بعيدا, في أحلام الماضي وتصوراته..لينشغل ببيان الانجازات التي حققها السلف بدل البحث عن وسائل تمكن من تطوير ما قدم الأجداد.
وهو ما أدى إلى انفصام بين البلد ومثقفيه. الذي يهرب من التفكير بانغماسه في الملذات إلى درجة تكييفه للعادات الوافدة مع عقله الجمعي. وهذا ما نراه واقعا في هذه السهرات الانتخابية حيث نرصد:
1ـ تشوفنا إلى استهلاك أحدث منتجات العصر وهذا التشوف من غير حدود، ولا يعرف الإرتواء، فنحن بهذا الوصف أكثر حداثة من المنتجين للسلع والأدوات الكمالية أنفسهم فما إن تشاهد موديل سيارة أوموبايل في التلفزيون أو مجلات الدعاية والإعلام, حتى يصبح بين يديك بأسرع من لمح البصر مثل خاتم سليمان. وبمرور الوقت تطورت مكانة السيارة في المجتمع الموريتاني وأصبحت تتبوء المكانة التقليدية التي كانت تميز الأفراد فلم يعد هناك مجال للتحصيل المضني للعلوم, ولا لإنفاق المال من أجل الوصول إلى فضيلة الكرم ولا إلى الشهامة في فلسفة العرف الموريتاني....الخ
2ـ علو شؤون الجسد، وإتساع استخدماته على حساب شؤون الروح والمعنى.
3ـ تضاؤل الحوار والتفاهم والتنازل، وغلبة الهوى والإعجاب بالرأي.
4ـ جمع المال لدى كثير من الناس أصبح غاية في حد ذاته بعد أن كان أداة لقضاء الحوائج والاستغناء عن الناس والاستعانة على طاعة الله تعالى وأضحى الناس اليوم لا يعرفون ماذا يصنعون بما يكد سون من أموال.
5ـ الحكم لغريزة القوة ،وليس لعقلانية النظام والمنطق والحق والعدل، فالبطولة خارج القانون تتعمق في الحياة يوما بعد يوم.
ـ تسخير كل الوسائل وعلى رأسها السيارات الفاخرة والموبايل وتأثير الانترنت والفضائيات لتحريك غريزة الجنس, وتحطيم في المقابل كل الآداب المرعية في هذا المقام، مما جعل سلوك بعض الناس ـ من كبار وصغار- يتجاوز بخطوات السلوك الجنسي لبعض البهائم بخطوات...
ومن الخطأ أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية، دون أن يكون وراء ذلك مشروع إنهاض، وخطة توعية من أجل صنع الحاضر، والتأثير في الأجيال القادمة. وإن كانت الأحكام والفتاوى الشرعية السابقة قد أدت دورا تاريخيا معينا، فقد تعداها مد العلم والثقافة..
حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم، وتوجيه معاصريهم، من خلال اهتمامهم بالوقائع والمستجدات...على حين عجز فقهاؤنا الجدد الذين يتوهمون أنهم مجرد وارث للأجداد ،عليهم أن يستغلوا تركتهم في خلق ملذاتهم، فإذا ما جوبهوا بتحديات العصر لجئوا إلى المباهاة بالتراث المتمثلة في صياغة العقل الموريتاني الذي أصبح يعيش بعقل متأخر عن الركب الحضاري بعدة قرون و بجسم القرن الواحد والعشرون, شكليا..
فهم في هذه الحالة بلغوا مرحلة من الوهن والعزوف عن التحصيل المعرفي لما يتطلبه من جهود مضنية مكتفين بالاجتهادات والفتاوى الجاهزة المأخوذة عن الأجداد رغم تغير الزمان والمكان وما أنجر عن هذا التغير في الوسائل والأحوال.
أما مثقفي المدارس النظامية قد لا تختلف كثيرا عن التقليدية حيث تكونت لديهم عقلية مشابهة للعقلية الأوروبية في مفاهيمها وأفكارها ونظرتها إلى الحياة, لأن الباب الوحيد للعلم والتثقيف هو ذالك الذي يفضى إلى هذه الثقافة, التي تلقن في المدارس المنشأة من طرف الحكومات في البلاد العربية ولإسلامية, على نمط المدارس المنشأة في البلاد الأوربية, من ابتدائية وثانوية وعالية. وهذه الثقافة بشكلها الحاضر وجميع ملابساتها أخذت واقتبست من الثقافة الأجنبية, وهى نفسها في الدواوين الحكومية وفى المهن الحرة وفى مجالات الحياة العملية المختلفة.
وارتباط المجتمع بالمناهج التعليمية, والمقررات الدراسية, ومختصراتها قتلت لديهم روح البحث وحرمتهم من المطالعة خارج المنهاج, وكرهت إليهم القراءة والكتابة، إذ حصرت الهدف منهما بالإمتحان والشهادة تنتهي الحاجة إليهما, وتبدأ القطيعة معهما بالنجاح في الامتحان وتحصيل الشهادة. من ثم فان الفئة التي حصلت على الشهادة ارتبطت هي الأخرى بوسائل الأعلام والمعلومات السريعة، بما تملكه من جاذبية وسائطها المتعددة في الصوت والصورة والحركة، فآثروها على تحصيل العلوم والمعارف، وسلموا أخيلتهم وأوقاتهم لها، وفضلوا التحول إلى متلق يستمع ويشاهد مسترخيا على أريكته، يتجرع ويحتسى كؤوس الشاي المنعنع مع ما يقدم له من دون كبير تدخل أو اختيار...
آثروا ذلك على معاناة القراءة الجادة وما تتطلبه من تركيز ووعي، فتسطحت الثقافة ونتج عن ذلك داء الأمية الثقافية التي أضرت بحركة النقد، وحدت من تداول الأفكار وأدت إلى ركودها، فضمر الإبداع وتحجرت العقول، وغاصت الثقافة في المياه الآسنة...
وبعودة مبرمجة إلى الجسور التي تربط بين السلف والخلف فان الجامع المانع لنا جميعا هو ״أطناب" خيام لفريگ: جمع فرگان. ويعني مجموعة خيام تنازلت متقاربة بشكل جماعي قد لا تخضع أحيانا لترتيب معني بالنظر إلى طبيعة البقعة المستغلة. وإذا تراحبت مجموعات سكنية من خيام وترامت هنا وهناك قرب ماء أو منتجع سميت فرگان.....
ويشمل لفريگ بالإضافة إلى أفراد القبيلة أو الأسرة خيمة القائد (وجنوده من حملة السلاح) الذي يكون بمثابة الآمر الناهي والمخطط وتجسد المحور الأساسي للفريك. بالإضافة إليها توجد خيمة لِمْسيدْ: حيث الفقيه الذي يتولى إقامة الصلوات وإمامة المصلين وتدريس أبناء الساكنة والفتاوى والتثقيف مقابل ضمان المعيشة والأجر حسب الاتفاق. وهناك خيمة
وهناك خيمة الفنانين "ايكاون" التي تختص بالغناء وتسجيل الشعر العامي الشفهي في الذاكرة الشعبية.. وهناك خيمة الصناع "المعلمين" التي تتولى إعداد وإصلاح كل الحاجيات التي يضطر لفريگ لاستعمالها من أواني ووسائل مختلفة وحلي وجلود وما إلى ذلك من صناعات يدوية يقوم بها الصانع التقليدي...
وقد يتكون لفريگ من أسرة واحدة أو جزء من قبيلة تربط بينها أواصر مشتركة كالنسب والثقافة والتاريخ والمصلحة وغالبا ما تتخذ من يقوم على إصلاح ذات بينها من مختلف الفروع تتآلف في جماعة ذات دور اجتماعي وسياسي تفك المنازعات وتردع المعتدي بفتواها والمظلوم وتنتزع الحق ممن تجاوز الحد...تطلق عليها تسميات تختلف حسب المكان والجهة.وقد اخترع لفريك عبر مئات السنين عادات, وتقاليد, ونظم يصعب التخلص منها بسهولة خاصة في دولة فتية مثل بلدنا لم تبلغ سن النضوج المدني بعد..
ولقد أصبح مؤكدا أننا إذا لم نأخذ في الاعتبار تاريخ التراكمات القيمية، وروافد التيارات الثقافية التي تؤسس الظواهر المدروسة فإننا سنسقط لا محالة ضحية لخداع العقل الجمعي.
يتواصل ...
بقلم الكاتب: المرابط ولد محمد لخديم
رئيس الجمعية الوطنية للتأليف والنشر.
E- mail; [email protected]




Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!