التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:04:30 غرينتش


تاريخ الإضافة : 01.08.2009 18:29:54

هل تكشف الحملات الانتخابية الوجه الآخر لموريتانيا ” لفريگ” ؟: 2-2

المرابط ولد محمد لخديم   *                                       lemrabott8@gmail.com

المرابط ولد محمد لخديم * [email protected]

فمجتمعنا مثل كل المجتمعات يقف بكل فئاته حارسا على قيمه وأعرافه، وهو مستعد لإقصاء من يخرج عليه ونبذه، ولذا فإن من المصادر الأساسية لمقاومة التغيير الخوف من الابتعاد عن القوانين التي يبنيها المجتمع. ومن الواضح أن الناس كثيرا ما يتضايقون من بعض العادات والتقاليد ويشعرون بعدم منطقيتها، لكن الخوف من العزلة الاجتماعية، هو الذي يجعلهم يمتثلون لها، حتى في الأمور الشخصية التي لا تتعلق بأهداف اجتماعية، ما دامت ممارستها تتم في إطار اجتماعي..

و اخترع لنا نظاما اجتماعيا متكاملا قاعدته القبيلة، وقد نشطت المهارات الإبداعية في هذا المجال فاخترعت ضمانات أخلاقية، واجتماعية، للحيلولة دون تلاشي هذه العادات فمثلا: ابن فلان، ومن قبيلة كذا ..وعبارات (وخْيراتْ، ووْرخَستْ) وقد تطورت هذه العلاقات حتى اتخذت شكل جمعيات قائمة على أساس جد واحد.. ولعل كلمة (وخْيراتْ) لما تبعثه في شخصية الموريتاني هي الدافع الأساسي الذي حمل المجتمع على عدم التنكر لهذه العادات، وهذا ما يفسر وجود عدد كبير من الناس في بيت كل موسر من سكان المدن الموريتانية، وقد يصل الأمر إلى حد تضرر الشخص ماديا وأدبيا بسبب التكاليف الباهظة التي يجرها عليه تواجد هؤلاء حوله. ومع ذلك تأبى عليه تلك الروابط أن يبدر منه أدنى تبرم، لأن ذلك يعتبر ضعفا في المروءة وروح الشرف (أمْحيلي). إن روح الشرف المرتبط بقيم البطولة والإباء والحكمة هي الدافع إلى التضحية لصالح المجتمع والباعثة على التنافس الخلاق ( التفاييش) وهذا الأخير أخذ في وقتنا الراهن شكلا سلبيا بحيث إذا اجتمعت جماعة من الناس من طبقة اجتماعية معينة، في السعي لتحقيق غاية، واستطاع أحدهم أن ينالها، فإن الأفراد الآخرين سيستسهلون الصعب حتى يفعلوا مثله. وهذا لا ينسينا الجانب السلبي للتصرف النابع من هذه الروح، ذلك الجانب المتمثل في عناية مفرطة بالمظهر، إن فكرة ضرورة الظهور بمظهر الند أو المثل (أتفاييش) جعل كثير من الناس يعيشون فوق طاقتهم. وعلى سبيل المثال: إذا تزوج شخص ما وأنفق مليون أوقية، أصبح لزاما عليّ أن أحاول بكل الوسائل الاقتداء به، ولو كان وضعي المادي يختلف اختلافا كليا عن وضعه، الأمر الذي يرغمني على سلوك طرق ملتوية للحصول على المال..والمثال يتكرر في السيارة الفاخرة، والفيلات التي تأخذ بالألباب على الطريقة الموريتانية, وجميع المظاهر الكمالية...إلخ.


لكن المتتبع للمجتمع الموريتاني يلاحظ أن هذه الضمانات الأخلاقية والاجتماعية التي اخترعها (العرف الموريتاني سابقا ولا يزال يتمسك بها) حاليا قد ابتعدت كثيرا عن معناها الأصلي الذي ظهرت من أجله, لكن المتتبع للمجتمع الموريتاني يلاحظ أن هذه الضمانات الأخلاقية والاجتماعية التي اخترعها (العرف الموريتاني سابقا ولا يزال يتمسك بها) حاليا قد ابتعدت كثيرا عن معناها الأصلي وعن الجهود المضنية, والتضحيات الجسام التي كانت تتطلبها..فمثلا:
(وخْيرتْ) كانت ترمز للعلم، والشهامة، والأخلاق الفاضلة، والأمانة، والصدق، والوفاء بالعهود.كما تقدم آنفا..

أما الآن فإننا نقولها لاشعوريا في مجتمع فقد فعاليته وفقد معها قدرته على قراءة الأحداث الماضية منها والجارية، فضلا عن المستقبلية وتحول إلى ظاهرة صوتية تقول ما لا تفعل، وتسمع فلا تدون، وإن هي دونت فلن تقرأ.لأنها هجرت التحصيل العلمي وتحولت إلي شحاذ يتلهف كل ما يأتيه من الغرب..
والوجود كله مادة خاما لا عمل فيها، فهو ضرورة لا وجود فيه للحرية. لأن هذا الوجود بلغ بحركته أقصى الحرية حين بلغ القيد. ونحرر منه على مقدار ما نقول ونفعل، أي على مقدار ما نعمل، ونعمل على مقدار ما نعي من حركة الجدل فيه...

ولكون هذا المجتمع لا يعمل, لقوله مالا يفعل, فانه يعيش حالة من الانفصام بينه وبلده
لذا نراه يهرب من التفكير بانغماسه في الملذات إلى درجة تكييفه للعادات الوافدة مع عقله الجمعي كما مر بنا من خلال السهرات الانتخابية. وهذا يسلمنا إلى معادلة أحد طرفيها البطن والفرج, والطرف الآخر القلب والعقل وتكون المعادلة على الشكل التالي:
العقل+القلب = البطن+الفرج. وعليه يتحدد تعقلنا للأشياء حسب تفعيل طرفي المعادلة بالنسبة للطرف الآخر. وتفسير ذالك أن الإنسان فيه غرائز دنيا تشده إلى تحت؟
وخصائص كريمة تدفعه إلى فوق؟ فإذا كانت هذه الخصائص أشد قوة ذهبت بالإنسان صعدا إلى آفاق الحق والخير والجمال. وإذا كانت مساوية لغريمتها ذهب السالب في الموجب وبقى المرء موضعه. وإذا كانت أضعف منها أخلد إلى الأرض واتبع هواه..

وهذا ما فتح ثغرات استغلها الغرب بإغراق أسواقنا بالسلع الكمالية وهو يعي ما يريد وقد تحقق له فعليا على أرضية الواقع حيث أصبحنا محكومين لهذه البضائع.وخطورة هذه
البضائع المستوردة أنها تحد من حرية مستورديها حين تغرقهم بالضرورة، مهما كانت متطورة لأنها تزداد على حساب الحرية كالذي تتحدد مكانته في المجتمع بالسيارة أوالكماليات الأخرى مثلا..
ولمعالجة هذه المشكلة تعمد الشعوب إلى تبادل الضرورات، أي البضائع المستوردة قدرا بقدر.وأكبر الضرورات خطرا هي التي تلغي أكبر قدر من العمل حين ما تستورد.
إن كل ضرورة مستوردة تلغي جزء من حرية المستورد على قدرها وأشد الضرورات التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند المستورد..لأن العمل هو الحرية ، وكل ما يلغيه يلغي الحرية..

وحرية الفرد في المجتمع على قدر عمله، فإذا أخذ من عمل الآخرين مما يعطيهم من عمله، فقد من حريته بقدر ما يزيد لهم عنده، وأكثر الأفراد من يرون آثار عملهم فيما بين أيديهم من حاجات... وأقسى ما يواجه الحر من عقبات أن يجد نفسه غريقا في عطاء الآخرين، وليس له ما يعطيهم، لشعوره بأن ذلك على حساب حريته...
وفى استسلامه لهذا الوافد البراق والسهل المنال سواء بانغماسه في الملذات أو تكييفه لهذه العادات الوافدة مع عقله الجمعي. كالعناية المفرطة بالمظهر، الند أو المثل (أتفاييش) جعل كثير من الناس يعيشون فوق طاقتهم. وعلى سبيل المثال: إذا أنفق شخص ما مليون أوقية، أصبح لزاما عليّ أن أحاول بكل الوسائل الاقتداء به، ولو كان وضعي المادي يختلف اختلافا كليا عن وضعه، الأمر الذي يرغمني على سلوك طرق ملتوية للحصول على المال..
والمثال يتكرر في السيارة الفاخرة، والفيلات التي تأخذ بالألباب على الطريقة الموريتانية, وجميع المظاهر الكمالية...إلخ.
وقد كان (التفايش) قبل هذا في العلوم، ومعرفة الأحكام، والشهامة وإكرام الضيف...الخ
وأضحت الآن على المنازل الضخمة، والسيارات الفاخرة, والاستجمام والنساء....الخ

ومن هتا جاءت كلمة متفكرش, متروجل....الخ وهو ما كون مشكلة لدى شريحة كبيرة من المجتمع, وربما أدى بالألفاظ السابقة أن تأخذ معاني جديدة تختلف جملة وتفصيلا عن معناها الأول, في ظل الوفرة المادية والترهل الذي أصاب أكثر ما أصاب نخبة هذا المجتمع وقلبه النابض..
ومتروجل هذه هي مشتهى كل موريتاني..على اختلاف الأعمار والمستويات وهي شرط أساسي لقائد لفريك في نظر المجتمع, هذا بالإضافة إلى دور القبيلة والجهة وما تلعبه في التأثر والتأثير خاصة في مجتمع بدوى ثقافته وهمومه بدوية لا اهتمام لها بالمدينة يعيش
في عصر أكثر ما يميزه التباين والتخصص والطبقية والبيروقراطية....
وهذا المجتمع وجد نفسه يعيش تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها اختصرت المراحل والمسافات وجاءت متكاملة نتيجة لظروف معينة خارجة عن إرادة البلد, بدون أن يكون مؤهلا لها, إن أحد مقاييس التحضر المهمة اليوم يكمن في مدى سيطرة الناس على بيئاتهم الاجتماعية والطبيعية، ومدى قدرتهم على استيعاب سنة التغيير، والتلازم معها. وحركة البحث العلمي في معظم مجالات الحياة تستهدف هذه المسألة على وجه التحديد.
إذا طبقنا هذا المقياس فان أي دولة تطمح أن تكون متحضرة بالتعريف الدولي فيجب أن تحقق الآتي:

1- محاولة الانعتاق من أسر الجهل والأمية الأبجدية ،وخاصة الأمية الثقافية والحضارية.
2- إن هذه الثقافة ستسلمنا إلى منهاج من الدراية العلمية، هذه الدراية العلمية تبني بيننا جسورا من العلاقات الاجتماعية، ثم إن العلاقات الاجتماعية تتعقد فتنشئ في ما بيننا جسورا من العلاقات الاقتصادية، وشيئا فشيئا تتعقد العلاقات الاقتصادية في ما بينها، ثم إن هذه العلاقات الاقتصادية تسلمنا إلى العمران والبناء والحضارة،وعند دخولنا في عالم الحضارة والبناء نجد أن علاقاتنا الاجتماعية تعقدت -الاقتصادية تعقدت- الأسرية تعقدت ،عندها نشعر بفراغ في حياتنا، فما هو هذا الفراغ؟!
هذا الفراغ هو فراغ الشريعة والقانون، أي أننا بحاجة ماسة إلى صيغة تنظم علاقاتنا الاجتماعية الاقتصادية الإنسانية لتضمن سير العدالة في حياتنا وتضع جسورا للعلاقات السليمة بيننا وبين جيراننا. إذ أن الصيغة القانونية عندما توجد متكاملة في مجتمع من المجتمعات ،تكون عنوانا على أن هذه الأمة نضجت حضاريا وأنها وصلت إلى أوج حضارتها، هذا ما يقوله علم الاجتماع وهذا ما سارت على نهجه المجتمعات كلها في العصور القديمة والحديثة. إذا طبقنا هذه القاعدة على دولتنا الفتية فإننا نجد أن عمرها لم يصل سن النضوج حتى يتدرج في الهرم العمراني..

فهي قد عاشت في هذا العمر القصير مراحل متباينة: بين البداوة, والاستعمار, ودولة المدنيين, ثم العسكريين إلي يوم الناس هذا..
إذا رجعنا إلى قيام الدولة الموريتانية الحديثة فإن أول ما يطالعنا في هذا الصدد هو خلو البلاد من سلطة مركزية تطبق الشرع وتدبر أمور الناس، ويتحاكم إليها الخصوم في الوقائع، فلم تعرف البلاد الشنقيطية بعد العهد المرابطي أية سلطة مركزية ولا نظام في الحكم حتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين عندما أعلن عن دولة الاستقلال تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 28 نوفمبر عام 1960م.
وهذا ما يسمح بالقول أن التاريخ السياسي للبلاد أمتاز بسمة من البداوة يعززها غياب للسلطة المركزية، فكان ذلك دافعا إلى صياغة جملة من الأسماء تلح في معظمها على وصف هذه الأرض بالخروج على السلطة والحكم والابتعاد على الخلافة والنظام، ومن هذه الأسماء "البلاد السائبة" وقد تحدث الشيخ" محمد المامي" عن خلوها من مقومات الملك والسلطان كالدرهم المسكوك والأمير المطاع يقول: "هي البلاد التي لا حكم فيها ولا دينار ولا سلطان بادية في فترة من الأحكام بين المملكتين البوصيابية في الجنوب والإسماعلية في الشمال"، ولاشك أن مسألة السيبة أو التسيب كان لها تأثير كبير على أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، فلعلها هي التي حملت علماء الشرع على أن يكيفوا الكثير من الأحكام البدوية وفق النموذج القائم فاجتهدوا قدر الممكن والمتاح في المصالح والمقاصد بل إن هذا الاستثناء ولد عند أهل الذكر قناعة بعدم جدوى دولة النظام، خشية الفتنة والفساد وقد عبر الشيخ" محمد اليدالي" عن جانب من هذا التوجس مبينا جهل الناس يومئذ بأمور الحكم وفقه السياسة.


ويبدوا أن هذا التصور مازال موجودا إلى يوم الناس هذا, وان كان لا يتعدى آنذاك الحد الجغرافي لبلاد البيظان, إلا أنه وبقدرة قادر انطبق الحد الجغرافي على شكل نظام الحكم, وسمات الحاكمين .
فمنذ ذالك التاريخ وأنظمة الحكم المتعاقبة ذات طابع برزخي, فلا هي نظم عسكرية ولاهي مدنية ولكنها, عوان بين ذالك, للعسكر فيه القول الفصل وللمدنيين في بعض أطوارها الكلمة العلانية.. وقبل أن تفيق موريتانيا من هذه الدوامة وتراجع نفسها وجدت أن كثيرا من الشعوب سبقتها إلى مدارج الحضارة وأنه قد حان الأوان للحاق بعجلة الركب باعتدال أو بغير اعتدال...
في هذا الجو يضطرب التفكير وتحتجب الحقيقة خلف ضباب الأوهام وتندفع الجماهير وراء كل جديد دون أن تكلف نفسها عناء التميز بين الماء والسراب.. وهاهي موريتانيا تدخل تجربة غير مسبوقة فرضت عليها نتيجة لظروف معينة وهي لا تخلوا من أمور يجب التنبه لها:
ـ أولها أن ديمقراطية الغرب مستمدة من نظرياته، وتتطلب لتطبيقها أو لحسن استعمالها فهما جيدا لتلك النظريات.
ـ وثانيها أن هذه النظريات تعتمد بدورها على عقائد فلسفية إذا فهمت على حقيقتها تولد عقلية شخصية وجماعية وشكوكا تختلف كلها عما ألفته ثقافة لفريك التي تعتمد الأسرة والطائفة والقبيلة ، وقد تتعارض معها في بعض الأمور.


وبموجز القول: لا يستطيع الإنسان أن يطبق الديمقراطية دون أن يستورد عاجلا أو آجلا عقليتها الفلسفية وهذه العقلية باستحواذها على تفكير الشباب اليوم تتغلب على الولاء العائلي والقبلي القديم. وإذا لم ينتج عن هذا بالضرورة توتر عاطفي وبأس اجتماعي، فمن المهم أن تتنبه لما يطرأ عليها وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى تجربتها على أساس أنها اجتماع عقليتين فلسفيتين مختلفتين، تلك التي تحمل الثقافة التقليدية، وتلك التي انبتت الديمقراطية ومن هنا تبرز لكل فرد أهمية فهم الديمقراطية وحيثياتها..
ينسحب هذا على المترشحين الأكثر حظا بالفوز في هذه الانتخابات فهم تجمعهم ثقافة لفريک وتتجاذبهم عقليتين فلسفيتين مختلفتين بالإضافة إلى حب المظهر الذي يظهر في ما يمكن أن نسميه ب: (التفاييش)الجديد الذي فقد معناه الأصلي وأصبحنا كناخبين نشاهد بعض تجلياته في الشتائم بين هؤلاء المترشحين وممثليهم قي الصحف المكتوبة والمقروءة وبعض القنوات الفضائية المحلية والدولية وبهذا يخطئ هؤلاء حيث حملوا ثقافة لفريك ما لا تحتمل إذ أخذوا منها الجانب السلبي فقط وأقحموها في السياسة..
فهل يراجع هؤلاء أنفسهم بعد انتهاء الحملة ويتقبلوا أدنى مفاهيم الديمقراطية وهي القبول بالهزيمة بروح رياضية, والتريث في الاحتفال بنشوة النصر..
فالمهم أولا وأخيرا هو موريتانيا وليكن في علم هؤلاء أن موريتانيا في خطر حقيقي وهذا ما يظهر من مشاهد اتفاق داكار,فمن المؤسف أن نرى بلدي موريتانيا تتحول إلى ساحة لصراع بعض القوى الدولية والإقليمية.. الجزائر والمغرب من جهة, وإيران والغرب من جهة أخرى, وهذا ربما يفسر الاهتمام الزائد الذي أعطاه المجتمع الدولي بمختلف فصائله(مجموعة الاتصال الدولية، سفراء أعضاء مجلس الأمن..) لهده الأزمة الموريتانية بالذات..بدليل أن موريتانيا كانت موجودة قبل هذه الأزمة و دخلت أزمات ومشاكل أخطر منها ولم يعطى لها أي اهتمام..

لكن الحقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية يبرز شيء واحد وهو المصالح.
إن تاريخ الغرب_ منذ أن أصبح هذا المفهوم مفهوما سياسيا استراتجيا يكشف عن حقيقة أساس قوامها: مواقف متغيرة وثابت لا يتغير: إن موقف الغرب من العرب أو من الإسلام أو من الصين أومن أية دولة أخرى في العالم, موقف يتغير دائما, وقد يقفز من النقيض إلى النقيض إذا اقتضى الأمر ذاك,أما الثابت الذي يحكم تحركات الغرب وتغير مواقفه فهو(المصالح) ,ولاشيء غير المصالح فعندما تمس مصالح الغرب أو يكون هناك ما يهددها, تتغير المواقف في الحين.
وهكذا,فان الأمر الذي جعل الانجليز والغرب عموما يحاربون مشروع(وحدة عربية),مهما كان شكلها, بعد سنة 1956, هو خوفهم من أن يطال التحرير والتأميم الأرض العربية وثرواتها باسم القومية العربية.

وما جعل الأمريكان والغرب عموما ينقلبون على الإسلام مثلا, الذي كانوا يغازلونه, هو قيام بعض الحكومات التي تحكم باسمه وعلى رأسها المملكة العربية السعودية على عهد الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز, بقطع النفط عن الغرب نتيجة انحيازه إلى جانب إسرائيل في حرب 1973 وما تلا ذالك من استعادة الثورة الإيرانية, التي قامت باسم الإسلام,حق إيران في امتلاك بترولها. وهو الحق الذي حاول الدكتور مصدق قي أوائل الخمسينات استرجاعه,فأطاح به الغرب بواسطة (الشاه), وبتحالف مع زعيم الاتجاه الإسلامي فيها آنذاك آية لله القشانى.

وشأن الغرب مع الإسلام والعرب والإسلام شأنه مع الصين وغيرها من ليلدان. كانت الصين تشكل العدو رقم1 للغرب يوم كانت سياستها تابعة أو منسجمة مع سياسة الاتحاد السوفياتى . وعندما حصلت القطيعة بين بكين وموسكو,تغير موقف الغرب منها, فاعترفت بها الولايات المتحدة ضاربة عرض الحائط صنيعتها التي كانت تحمل اسم (الصين الوطنية), وتحتل مقعدا دائما في مجلس الأمن, المقعد الذي تحول منذ ذالك إلى الصين الشعبية, وعندما انهار الاتحاد السوفياتى,عادت الصين لتكون العدو و(الخطر الأصفر), والسبب هو امتلاكها للقنبلة الذرية وسلوكها سياسة مستقلة ودخولها في مرحلة الإقلاع الإقتصادى الذي قد يجعل منها منافسا حقيقيا لمصالح الغرب الاقتصادية في شرق آسيا.

إذا يتبين لنا مما سبق أن الغرب مصالح ولاشيء غير المصالح , وكل حوار معه أو تفكير ضده لا ينطلق من هذه الحقيقة, إنما هو انزلاق وسقوط في شباك الخطاب المغالطى التمويهي السائد في الغرب والهادف إلى صرف الأنظار عن (المصالح) وتوجيهها إلى الانشغال بما يخفيها ويقوم مقامها في تعبئة الرأي العام مثل الحريات,الثقافة, الديمقراطية... الخ.. وما دام الغرب مصالح ولا شيء غير المصالح...
فما هي المصلحة التي يريدها الغرب من هذه الالتفاتة الغير مسبوغة بشأن الموريتاني؟

إن الغرب اليوم يعانى أزمة خانقة وأي بلد توجد فيه ثروات طبيعية يعتبر ذا أهمية خاصة إذا كان يتميز بموقع استراتيجي مثل بلدنا, لكن ليس هذا هو ما يريده الغرب وحده, بل هناك بالإضافة إلى هذا أمور ينبغي الانطلاق منها لفهم حيوية الإقليم الموريتاني، أو الدولة الموريتانية ككيان قادر على ممارسة سلطته فوق أرضه: فعلى مستوى شبه المنطقة تنظر (المغرب والجزائر) إلينا من خلال الدور الذي يمكن أن نلعبه في تسوية قضية الصحراء الغربية. وعلى المستوى الإقليمي تبرز أطماع الدولة الإيرانية في إيجاد موطئ قدم على المحيط الأطلسي وبالذات على تخوم العالم العربي أما على المستوى الدولي فينبغي النظر بجدية إلى القلق الأوربي والأمريكي من أن تتحول الشواطئ الموريتانية إلى وكر للقرصنة ولتصدير المهاجرين السريين أو أن تتحول صحاريها الوعرة إلى إمارة إسلامية للقاعدة في بلاد المغرب العربي...
وهذه المصالح المشتركة بين جميع الأطراف هي ما يفسر هذا الاهتمام الزائد للمجتمع الدولي بموريتانيا وليست الديمقراطية كما يتصور البعض...
لذا يجب على رئيس الدولة المنتخب أن يتقن قواعد اللعبة وأن يفتح عينيه لما يحاك لهذا البلد الفتي الذي ما يزال يبحث عن نفسه, ليس في الديمقراطية ودولة المؤسسات فقط, بل أكثر من ذالك التنمية الاقتصادية الشاملة..

وهذا لن يتحقق إلا بإعادة الثقة في الثقافة، والمثقف، والاستفادة من أصحاب العقول، وتوظيفها، وتنميها، ومساعدة أصحابها، على النهوض والتغلب على العراقيل التي تعترض سبلهم. ولا شك أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى النهوض بالبلد، وجعلها في مصاف الدولة المتقدمة، فالمواهب ثمينة جدا، وجديرة بالتشجيع، والتنمية، كائنة ما كانت، ولا ينبغي إهمالها، ولا تجاهلها، سواء كانت فنية، أو أدبية، أو علمية.كما تقدم آنفا..
فالإنسان الموهوب، أكثر فائدة لنفسه، ومجتمعه، من ملايين البشر، ممن لا يتمتعون بالموهبة.
فمن غير المعقول معالجة الملفات السياسية، والاقتصادية،كما يجري في كثير من دول المتخلفة ودول العالم الثالث بدون ركائز ترتكز عليها.
والإنسان عبارة عن عقل + عاطفة، إذا اتحدا ولم يطغ أحدهما على الآخر خرج التفكير سليما وبهذا يبني ثقافة سليمة.
والثقافة للناس أشبه بالسلاح للمقاتل الذي يمنح لصاحبه معنى من القوة والمتعة لا يجده في غيره.،وعدم مبالاة الدولة بالثقافة كون لدي المثقفون قناعة، أن الثقافة غير مرغوب فيها في موريتانيا، عكس البلدان التي أتوا منها، وهذا ما أدى إلى غياب الثقافة من الساحة الوطنية. وهو ما أنتج عادة سيئة تكمن في أن المجتمع الموريتاني أصبح يمني أبنائه بالتعيين في الوظائف, بدل تكوينهم بالتعليم والثقافة...

والثقافة في نظر المثقف هي تلك التي يعتز بها أهلها، ويدافعون عنها ما داموا يشعرون بالوظائف الإيجابية التي تقوم بها، وتؤديها في حياتهم، وهم يمثلون جميع فروعها، من دراسات إسلامية، علوم، وتقنيات، وآداب، وفنون.
وإذا كان البحث العلمي أحد الدعائم الأساسية لتقدم الأمة وتعريفها بمكامن قوتها، وانفتاحها على آفاق النمو والتطور، فإن الكفاءة البشرية هي أساسه وديدانه.وما العالم الباحث إلا رسول المعرفة إلى ركب الحضارة الإنسانية الكبير.
ولسان حال هؤلاء يرى أن عدم مبالاة الدولة بالنشر وآلياته هي إهانة للبحث العلمي وأهله.مما ولد عندهم نوع من خيبة الأمل. إذ أنه لا فائدة في بحث أنفق عليه الوقت والمال رغم شح المراجع وشظف عيش المؤلفين ولم يرى النور.لأنه لا توجد سياسة واضحة للتأليف والنشر حتى الآن في البلد. ويبقي هناك بصيص أمل في برنامج المترشح المتأهل في هذه الانتخابات, الذي يتعهد بإنشاء دار وطنية للنشر, ومراجعة شاملة للكتب والمخطوطات والمكتبات المنتشرة على عموم التراب الوطني. ونحن هنا نلتزم إذا تحقق هذا الشرط أن نحول جميع بحوثنا وبحوث شركائنا في الخارج إلى داخل الوطن وفي المقابل في حالة إذا لم يتحقق هذا الشرط فلم يبقي لنا إلا الهجرة ...فمن غير المعقول أن نعيش غرباء في بلدنا..

ودولة تهمش العلوم والثقافة وأهلها، فإن زادها غير كاف لمواجهة حضارة ساحرة الإغراء كثيرة الأحابيل، ولمواجهة هذه المدنية القادمة لا محالة، يجب علينا ابتكار نماذج جديدة للتغيير تنسجم مع عقيدتنا، وأهدافنا، وعقلنا الجمعي الإيجابي، وتستوعب طبيعة التحديات المتصاعدة وحسب رأي فإن الحياة في المدينة ستشهد تزاحما كبيرا، وتضيق المساحة التي يشغلها كل فرد، وكل أسرة، وهذا يتطلب اكتشاف الغير وتقبله، والاعتراف بوجود الاختلاف بين الناس، واحترام نمط حياة الآخرين، ومن ثم اعتبار القيود الاجتماعية شيئا نسبيا، مع أهمية تعلم التعايش والتكيف والتسامح.
أما إذا لم نتحرك بسرعة فإن المدينة ستشكل بوتقة هائلة لتهجين الأعراف والثقافات، إلى جانب أن الرقابة الاجتماعية فيها ضعيفة، مما يطلق العنان لظهور بعض السلوكيات الخاطئة كما أسلفنا سابقا.

إن الزحام الذي يشتد في المدن يوما بعد يوم، يثير الكثير من المشاعر العدوانية، ومشاعر الضيق والتذمر من جراء الشعور باقتحام المجال الخاص الذي يرسمه كل واحد لنفسه في ثقافة لفريك المتعودة على أطناب الخيمة,التي تحدد الكثير من سلوكياتنا فمثلا للحصر: مسألة الاستئذان والتي هي سلوك مدنيي وشرعيي مازلنا حتى الآن لا نعطيها أي اهتمام حتى وإن إعترضتنا جدران الاسمنت...
وهكذا فالرؤية المتعددة، توفر نوعا من التوازن العقلي والشعوري، وتحسين سوية المقارنة، مما يعبد الطريق في النهاية نحو التنمية المتكاملة.
إننا نعانى أزمة حقيقية في الذات فمواطن الأزمة موجودة في الضمير وفي علاقته مع الواقع، وهذا يعني أن الأزمة تتصل بتفسير المشاكل أكثر من اتصالها بطبيعتها، فهي ليست أزمة في الوسائل وإنما في الأفكار.

فأخطر ما أصاب هذا المجتمع الموريتاني أن أصبح يتشكل مما يمكن تقسيمه إلى مركز وأطراف، فالمركز يتكون من شريحة من هذا المجتمع استطاعت على مدى عقود أن تتحكم في موارد قدرت بالمليارات، فنظرتهم لا تدرك من هذه الأزمة سوى ما تمليه عليهم عقولهم لأنهم يرون الأمور من منظار توجههم هم وليس من منظار الصالح العام. فهم بمثابة الثقل الذي يجذب إليه باقي الأطراف..
إن الإصلاح لا يفرض من الخارج، وما لم تتعامل الدولة مع هذه الشريحة المتحكمة في كل شيء فان كل إصلاح لن يجدي نفعا لذا يجب تفعيل دور الدولة في مواجهة القبيلة والجهة، وفك ارتباط المثقفين الأكفاء والسياسيين الجادين مع هذه المؤسسة البالية، التي يحرص على بقائها أنصاف المثقفين والسياسيون المخادعون الذين أثروا، في ظل العهود الماضية.ولا سبيل إلى هذا إلا بإقامة ندوات فكرية للنقاش جريئة وصريحة..

وما أعنيه بالنقاش هو النقد البناء لأنه مظهر من مظاهر استيقاظ الوعي: أي وعي الوعي بذاته، وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى في كل المسائل التي تحتاج إلى إعادة نظر. ويعنى النقد كذلك أن الوعي مازال يحتفظ بطاقة التمنع على الاندماج في الموضوع، كما يعنى أنه متحرر إلى حد ما من أسر البرمجة التي يهيئها الأعداء والعملاء والمنتفعون من وراء انتشار الفساد، وغياب موازين الحق والعدل.
إننا مجتمع بدوي ثقافته وهمومه بدوية لا اهتمام لها بالمدينة، تسودنا روح القبلية،وهذا ما سميناه اصطلاحا بثقافة لفريك وإذا كانت هذه الثقافة أدت دورها في فترتها الزمنية ومجالها الجغرافي فانه من غير المعقول استمرار وظيفتها السياسية, في مجتمعنا الحديث الذي يتميز بالتباين والتخصص والطبقية والبيروقراطية ....
وهذا ما أدى إلى جهلنا بما يدور حولنا دون أن نتخذ منه موقفا بإرادتنا وخاصة الغرب الذي أصيح يحدد أفقنا السياسي, والاقتصادي ,وربما الاجتماعي, في بعض الحالات وهذا يتطلب منا العمل والمثابرة الجادة والمخلصة فقد؛
- آن لنا أن نبدع ثقافة تستجيب لمتطلبات عصرنا وطموحنا.
- آن لثقافتنا أن لا تظل الماضي الأعزل في عالم الدول والأمم والقارات.
- آن لثقافتنا أن لا تظل ثقافة تنتظر فتحا خارقا أو "كرامة" في عصر أخص خصائصه التطور العلمي والتقني القائمان على السببية العلمية وعلى الإرادة الإنسانية الفاعلة!!!
وما لم نحقق هذه المواصفات فسنبقي موريتانيا لفريك الذي أظهرت الانتخابات الأخيرة وجهها الآخر..!.
-------
*رئيس الجمعية الوطنية للتأليف والنشر.





Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!