التاريخ: 20.09.2024 التوقيت:17:43 غرينتش
تاريخ الإضافة : 21.09.2009 11:08:29
"الأخبار" تحاور الشنقيطي حول السلفية والعنف والتغيير السياسي
ودعا الشنقيطي في حوار صريح مع الأخبار إلى إيجاد حلول متعددة لهذه الظاهرة في موريتانيا منتقدا الاعتماد على الحل الإستئصالي ومشددا على ضرورة احترام حقوق الإنسان في إطار التعاطي مع الظاهرة وطالب العلماء والدعاة وأرباب القلم بتجريد هذه الظاهرة من دثار الشرعية الدينية الذي تنشر تحته القتل والتدمير والخراب.
وهذا هو النص الكامل للحوار الذي أجرته وكالة الأخبار مع المفكر محمد بن مختار الشنقيطي.
الأخبار: كيف تنظرون إلى ظاهرة العنف في سياقها الموريتاني وماهي سبل العلاج المناسبة لها؟
ليس تشخيص ظاهرة العنف السياسي المتدثر بدثار الدين أمرا سهلا، إذ يمكن تحليل هذه الظاهرة من عدة زوايا: شرعية-فكرية، واجتماعية-سياسية. لذلك أعتقد أن تحليل هذه الظاهرة يحتاج إلى تشخيص مركب. أما من الزاوية الشرعية-الفكرية فإن العنف السياسي الأهوج يوحي بانسداد ذهني تعاني منه بعض المدارس الفكرية الإسلامية، وبالذات المدرسة السلفية. وقد شرح لي مرة أحد أساتذتي في جامعة تكساس، وهو لبناني يدرِّس تاريخ الشرق الأوسط، رؤيته للمدرسة السلفية المعاصرة، فقال: إن هناك نوعين من السلفية: سلفية ملكية monarchist وسلفية فوضوية anarchist . وهو يقصد أن هذه المدرسة الفكرية التي ندعوها "السلفية" تنقسم عمليا إلى مدرستين تتفقان في الخطاب والرؤية الاعتقادية، لكن إحداهما تشرِّع للأنظمة السياسية كل شيء تقريبا، وتركز على معاني الطاعة العمياء للحكام والتخويف من الفتنة والشقاق، حتى أفتى بعض مفتيها بأن المظاهرات حرام!! وهذه هي التي سماها أستاذي "السلفية الملكية". أما الثانية التي دعاها "السلفية الفوضوية" فهي تخرج على السلطة وعلى المجتمع وعلى النظام الدولي، بل وتسعى إلى تفجير هذا العالم واستبداله بعالم آخر لا تملك تصورا واضحا عن طبيعته.
وأما من الزاوية السياسية-الاجتماعية، فإن مراحل الانتقال في أعمار الأمم لا تخلو من عنف وألم. وهذا نجده في تاريخ أوربا أيام الثورة الفرنسية، وفي تاريخ آمريكا أيام الثورة الأميركية.. وبالطبع فلن تخلو المجتمعات المسلمة من عنف في مراحل الانتقال التي نعيشها اليوم مع الأسف. فالانسداد السياسي في هذه المجتمعات عميق مزمن، وتخلفها في مجال بناء السلطة وشرعيتها وأدائها تخلف فاضح، وهذا مما يفتح الباب لأنماط كثيرة من العنف. وقد يتدثر هذا العنف بدثار ديني –كما هو حال السلفية الفوضوية اليوم- أو بدثار علماني –كما هو حال الجماعات اليسارية في القرن العشرين- لكنه في عمقه تعبير عن أزمة التحول الاجتماعي ومخاض الانتقال، وعرَض من أعراض انعدام الشرعية السياسية في المجتمعات الإسلامية، وخصوصا العربية منها.
وما تحتاجه بلداننا اليوم هو أن يمسك الحكماء بزمام الأمور، ويقودوا مجتمعاتنا عبر مرحلة الانتقال الحالية إلى بر الأمان الفكري والاجتماعي والسياسي بأقل ثمن وأخف ألم.
الأخبار: من المسئول عن هذه الظاهرة؟ هل هي مجموعات ما يسمى العنف أم الأنظمة التي تسببت في ظهورها؟
وأما أصحاب القرار السياسي فقد قصروا كثيرا في ابتكار حلول لمشكلات مجتمعاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهم السبب الرئيس في الانسدادات السياسية التي تخنق جل المجتمعات المسلمة اليوم. إن عدم توفير الحكام حياة كريمة لمجتمعاتهم وكبتهم لحريات الناس، من أهم الأسباب الدفينة وراء العنف السياسي. والحماس الديني لدى بعض الشباب الذي يلجأ إلى العنف لا ينفي وجود دوافع اجتماعية وسياسية أيضا. فالكائن البشري كائن معقد وقد يعبر عن دوافعه بلغة ملتوية وبطرائق لا شعورية.
الأخبار: حين تسمون هذه الجماعات فوضوية ألا ترون أن في ذلك مستوى من التجني على جماعات تضم فقهاء ومجموعات من خيرة شباب الأمة عرفت طريقها على الأقل؟
والأهم من كل ذلك إلحاح فقهاء السياسة على الالتزام بالوسائل الشرعية لتحقيق الغايات الشرعية، وذلك لسببين: سبب شرعي، وهو أن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا، وسبب عملي وهو أن الوسائل غير الشرعية لا تثمر ثمرات شرعية، و إنما تكون نتائجها عكسية على المدى البعيد، وهي تعبر عن غضب أكثر مما تعبر عن رؤية للإصلاح. فلا بد من اعتبار المآل في أعمالنا وجهودنا.
الأخبار: قلتم إن السلفية الملكية تبرر للسلاطين كل ما يفعلون، وبعض هؤلاء السلاطين يتبنى الديمقراطية ولو من الناحية الشكلية في حين ترفض هذه السلفية الديمقراطية وتعتبرها من الكفر.. هل تعيش هذه السلفية انفصاما؟
وإنما تتحكم في هذه الجماعات ذاكرة تاريخية تتقمصها، وهي تعيش فقرا مدقعا في الوعي بالزمان والمكان والإمكان. لذلك تجدها تنشئ "إمارات" و"محاكم" إسلامية غريبة الشكل والمضمون هنا وهناك، على نحو ما رأينا في عدد من البلدان، مثل "الإمارة الإسلامية أفغانستان" و"المحاكم الإسلامية في الصومال" و"الإمارة الإسلامية في غزة"... وهذا يدل على هوس بالأشكال السياسية أكثر مما يدل على رؤية إصلاحية بديلة. وهكذا فإن كل من يقاوم الظلم دون أن تكون لديه رؤية بديلة فهو يهدم ولا يبني في نهاية المطاف.
الأخبار: تتبنى هذه المجموعات طرحا أديولوجيا يقوم على منازلة الأجنبي ومكافحة التغريب، وهي تتمسك بالممانعة والمقاومة، وترى الحل في هذا، بينما نلمس تراجع الحركات السياسية الإسلامية المشاركة في العملية الديمقراطية.. ألا ترون أن هذه المجموعات تكسب لخطابها شرعية من خلال مجريات الواقع اليومي؟
إن ضعف التأصيل الشرعي، ونقص الخبرة السياسية، وانعدام الحس الاستراتيجي، أمور مهلكة لمن يسعى إلى التغيير. وقد اجتمعت هذه المهلكات بكل أسف في هذه الجماعات العنيفة، وهي مهلكات لن ينفع معها حماس، ولن تجدي معها غيرة. وإلا فما هو المبرر الشرعي أو السياسي أو الاستراتيجي لعملية الاغتيال البشعة في شهر رمضان للضابط الموريتاني الشهيد اجَّ ولد عابدين وصحبه في بلدة "تورين"، والتمثيل به وبصحبه بطريقة مقززة.. وهو شاب حافظ لكتاب الله عز وجل، عميق التدين، غيور على دينه ووطنه.. كما شهد بذلك من عرفه من الثقات الأثبات.. لقد آن الأوان لهذه الجماعات أن تتقي الله في شعوبها، و تسير على بصيرة فيما تطمح إليه من تغيير.. إن كانت تحمل هم التغيير حقا..
الأخبار: من الناحية الاستراتيجية يعتقد هؤلاء أن عملياتهم تساهم في تعرية الوجه الحقيقي للأنظمة والدول الداعمة لها، ويرون أن ذلك يساهم في التعجيل بالمعركة والملحمة الكبرى معهم؟
والأباة الذين بالأمس ثاروا أيقظوا حولنا الذئاب وناموا
فنحن لسنا بحاجة لمن يوقظ حولنا الذئاب، فلدينا في هذا العالم ما يكفي من الذئاب، وهي تنهش جسد هذه الأمة كل يوم.. فلسنا بحاجة لاستفزاز المزيد من الذئاب، وإنما نحن بحاجة لجهد منهجي بناء يوقف الذئاب عند حدها، ويخرجنا من وضع الهوان. لكن هذه الجماعات تحسن إشعال الحروب، دون امتلاك خطة عسكرية لحسم المعركة، أو رؤية استراتيجية لكسب الحرب.
الأخبار: فهل الحل إذن في تنويم الذئاب بالخطاب الرمادي؟
وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكفكف من حماسهم ومن غلوائهم، ويقول: "لم يوذن لنا بعد" حتى نزل الإذن في القتال.. فالإسلام مبني على أساس منهجي يستهدف الإنجاز وتحقيق المصالح الشرعية، وليس مبنيا على الاندفاع الصاخب وردة الفعل الهوجاء..
وإذا نظرت إلى حروب النبي صلى الله عليه وسلم تجد عجبا: فهي حروب غيرت وجه التاريخ، لكن مجموع من ماتوا فيها من المسلمين والمشركين معا كانوا حوالي سبعمائة شخص طبقا لبعض الإحصائيات.. وهذه حروب كسب الإسلام بها كل الجزيرة العربية، وانفتحت أمامه أبواب بلاد فارس ومصر والشام وما وراء النهر. ولم يعرف تاريخ البشر حروبا حققت نتائج عظيمة مثل هذه بثمن قليل كهذا..
فنحن في مسيس الحاجة لنتعلم من هذا الهدي النبوي تحقيق الأهداف الكبيرة بأقل ثمن ممكن من الدماء والأموال. والتفكير الاستراتيجي والإداري المعاصر مبني كله على تحقيق أكبر الأهداف بأقل كلفة ممكنة. لكن بعض الناس يسترخصون الدم المسلم، ولا يهمهم إشعال الحروب ولو مات فيها الملايين عندما يخيل إليه أن في ذلك نكاية بالعدو.. وهذا خطأ جسيم بموازين الشرع والعقل واحترام الذات.. فالدماء المسلمة ليست رخيصة ولا ينبغي استرخاصها.
الأخبار: أسلوب التعامل الاستئصالي الأمني هو الشائع الآن، وهناك جهات إعلامية تطالب بالاستمرار في هذا النهج، وهناك أصوات وازنة تطالب بالحوار.. أي المنهجين ينبغي اعتماده في التعامل مع هذه الظاهرة؟
فلا مجال للتعذيب ولا مجال للإكراه وانتزاع الاعتراف بالقوة.. كل هذا مرفوض شرعا وقانونا .. ثم إنه يعمق ظاهرة الغلو والتطرف ولا يعالجها. يجب أن يعامل الناس باحترام وبعدل، وحتى المجرم منهم يحتاج أن يرى المعاملة الشرعية، ويدرك أنك تعامله بطريقة غير طريقته.
أما ظاهرة العنف السلفي الفوضوي فهي ظاهرة مركبة لا يمكن علاجها بوسيلة واحدة.. وما من شك أن الحل الأمني مطلوب والحل العسكري مطلوب إذا جاء مجرمون وقتلوا عددا من الجنود الأبرياء ونكلوا بهم ومثلوا بهم.. لكن هذا مجرد وسيلة، وهنالك وسيلة الحوار الفكري وإقناع هؤلاء الشباب بخطئ منهجهم من الناحية الشرعية، وهم يأخذون المرجعية الشرعية بجد رغم ضعف بنائهم الفقهي.. وقد نجحت هذه الوسيلة في عدد من الدول العربية، ومنها اليمن التي انتدبت حكومتها أحد قضاتها الفقهاء وكلفته بالحوار مع هؤلاء الشباب الطائشين، فجلس إليهم، وأتاح لهم الحديث بحرية، ثم بين لهم خطأ منطلقاتهم الشرعية والسياسية، فاقتنعوا وعادوا عن غيهم. ثم حدث نفس الشيء مؤخرا في ليبيا على يد الشيخ د. علي الصلابي.. وأنا أدعو السلطة الموريتانية إلى تبنى مبادرة شبيهة لعل الله يقيل بها عثرة أو يهدي سبيلا..
الأخبار: عودا إلى موضوع ثمن المواجهة.. بعض العمليات تتم من منطلق أن فارق التسليح ومختلف الوسائل عند الأمة وعند العدو لا يسمح بتقارب الخسائر، وعلينا أن ندفع الفارق من دمائنا؟
بيد أن هذه المعادلة خارجة عن نطاق حديثنا هنا، فحينما تصوب جماعات فوضوية سلاحها إلى نحور أبناء أمتها، أو تشعل حروبا مع الآخرين دون خطة أو منطق، فإن الأمر لا علاقة له بالوسائل، بل بالفلسفة الناظمة والرؤية الفكرية. والخلل في الرؤية السلفية الفوضوية خلل فكري وفقهي واستراتيجي، وهو يحتاج إلى علاج على مستوى الأفكار والرؤى أولا وقبل كل شيء..
الأخبار: طيب، عندما نرفض الطريق الذي تقدمه هذه الجماعات، وتنسد الطريق أمام ديمقراطية حقيقية يعبر فيها الجميع عن رأيهم بحرية فما العمل؟
الأخبار: على علاقة بهذا الموضوع، من ترونه يتحمل مسؤولية الخلط بين المدارس الإسلامية الحاصل في الشارع الموريتاني؟
الأخبار: ما هي رؤيتكم لمستقبل ظاهرة العنف السياسي عموما في موريتانيا وخارجها؟
ويتوقف الأمر إلى حد كبير على مستوى تطبيق الديمقراطية الحقة وحرية الاختيار في مجتمعاتنا. فالمجتمعات الحرة تملك آليات التصحيح الذاتي وبوسائل سلمية متحضرة، أما المجتمعات المحكومة بالقوة فيلجأ الناس فيها إلى منطق القوة لأتفه الأسباب..
الأخبار: عندما ترصدون مراجعات الجماعات في الدول التي بدأت فيها الظاهرة منذ عقود، هل معنى هذا أن على موريتانيا انتظار عقود قادمة؟
سيدرك هؤلاء أن قتل جنود مسلمين أبرياء في "لمغيطي" أو "تورين" أو في أي مكان آخر جرم عظيم وإزهاق لأرواح بريئة بغير حق، كما سيدركون أن الهجوم على سفارات موجودة على هذه الأرض بعقد استئمان بين مجتمعنا ومجتمعات أخرى لدينا فيها سفارات و جاليات و مبني على خلل عميق في الرؤية الشرعية وفي الرؤية السياسية. إن الجاهل يفسد من حيث يريد الإصلاح، والمتحمس من غير بصيرة يضر ولا ينفع.
لا أعتقد أن الأمر سيأخذ وقتا مديدا كما حدث في بعض البلدان الأخرى.. فالتدين المحلي في موريتانيا لم يشتمل قط على بذور عنف، لذلك فإن هذه الظاهرة لا جذور لها هنا. ومستوى الرفض والنبذ لمن يحملون السلاح ضد مجتمعهم يدل على نوع من الحصانة التي ستحول دون تمكن السلفية الفوضوية في المجتمع. ومع ذلك فإن شيئا من الإنجاز النوعي في مجال التحول الديمقراطي واحترام الحريات وحقوق الإنسان، وفي مجال خدمة المجتمع ومحاربة الفساد صدقا لا ادعاء.. ضروري جدا لاحتواء ظاهرة العنف السياسي وحصارها في مهدها.
الأخبار: هل ترى موريتانيا من الناحية اللوجستية قادرة على مواجهة هذه الظاهرة؟
الأخبار: عدتم إلى موريتانيا بعد حوالي سبع سنوات، ما الذي تغير وكيف تنظرون إلى مستقبل البلد في ضوء التغيرات التي طرأت بعدكم؟
وفهمت من زيارتي الحالية الفرق بين مفهومين آخرين، وهما "الفقر" و"الحرمان"، وهو تفريق من صياغة المفكر المغربي محمد عابد الجابري. فلأول مرة أرى الناس قادرين على دفع ثمن خدمة ضرورية مثل الكهرباء، لكنهم لا يجدونها.. وهذا حرمان وليس فقرا..
أرجو أن تكون زيارتي القادمة أوفر حظا، وأن لا يستمر الغياب سبع سنين.. وشكرا لكم.
الأخبار: شكرا جزيلا.