التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:05:32 غرينتش


تاريخ الإضافة : 02.10.2009 15:57:22

داديس وعزيز: تشابه النهايات و إختلاف البدايات

سيدي ولد عبد المالك
[email protected]

في أغسطس 2008 قام الجنرال العزيز بإنقلاب عسكري أعتبر الأسوأ في تاريخ موريتانيا،لا لكونه تسبب في إراقة دماء ،أو لزعزة في أمن الوطن ،و لكن لكونه جاء في زمن أنتهت فيه صلاحية بيانات "الإنقاذ" و "الخلاص" ،و لكونه أيضا جاء في ظرفية تعد العصر الذهبي لموريتانيا المعاصرة من حيث الحريات و الإنفتاح الديمقراطي.


العقلاء و السذج على حد سواء أدركوا للوهلة الأولى أن الانقلاب هذه المرة هو" تصحيح" لوضعية إنتقال الجيش –أو على الأصح بعض أفراده- من موقع الحكم من خلف الستار إلى مباشرة الحكم بعد أن عجز الجنرال الشاب عن تطويع و ترويض الشيخ الرئيس خلف الكواليس، و بعد أن ضاق ذرعا بتصرفاته .


إنقلاب عزيز جوبه برفض داخلي قوي و منظم من طرف قوي متماسكة و متمرسة ،أما على المستوي الخارجي فأغلقت أبواب المنظمات الدولية و الإقليمية الفاعلة في وجه موريتانيا ،و أصبح سيف العقوبات الدولية مسلطا علينا.الجنرال عزيز قام بوأد الكلمة في المنابر الإعلامية الرسمية ،و حول الإذاعة و التلفزة و "الشعب" و" الوكالة" إلى أبواق تسبح بحمده آناء الليل و أطراف النهار،كما أظهر قدراته العسكرية في قمع تجمعات و تظاهرات معارضيه بحجة كونها "خارجة عن القانون"!


و شن الجنرال حربا تمييزية كلامية على "الفساد" و "المفسدين" لم تصحبها أفعال صادقة رادعة ،و توعد الجنرال ببناء "سجون كبيرة " للمفسدين.وكان الجنرال عزيز يري أن كل معارض له مفسد حتي و إن كان بريئا براءة الذئب من دم يوسف ،و أن كل موال له صالح مصلح حتى و إن كانت تدينه الأدلة .


بعد إنقلاب الجنرال عزيز بثلاثة أشهر كانت غينيا على موعد مع صفحة جديدة من تاريخها.صفحة ظن الغينيون أنها ستغلق بابا من الألم برحيل كونتي ،و تفتح آخر من الأمل بإستيلاء النقيب داديس على السلطة بالقوة قاطعا الطريق أمام"المفسديدن" من ورثة كونتي "الذين عاثوا في الأرض فسادا" .بدأ داديس يمطر شعبه كل يوم بوابل من الوعود الحالمة كتحقيق النماء و البناء وإرساء دولة القانون و الحريات ،و أعرب في أكثر من مناسبة عن زهده في السلطة ،و أن مهمته تقتصر على تسيير مرحلة إنتقالية شفافة و قصيرة الأمد يرتب خلالها لتنظيم انتخابات رئاسية محرمة عليه و على رفاقه في الجيش و ووزائه ،و مفتوحة لكل أهل الشأن من ممتهني فن السياسية ، و كلمة الفصل فيها للشعب الغيني .و تأكيدا لوعده بعدم المكوث فى السلطة طويلا ،كان داديس إذا سئل: بمن يقتدي و يتأسي من حملة السلاح بإفريقيا؟ يجيب بلا تردد :أن له بمامادو توماني توري أسوة حسنة .وأن قدوته المثلي هو العقيد أعل ولد محمد فال .


بدأ النقيب داديس كامرا بإصلاحات مهمة في محاربة الفساد ،فأنشأ لجنة للتدقيق و مراقبة القطاعات الإستراتيجية الاقتصادية للبلاد نتائج التحقيق فيها كانت تكشف كل يوم عن مستور ،و لا تتستر على متورط مهما كان موقعه و حزبه ، و لم تشفع للمؤسسة العسكرية "قدسيتها" فقام بإعفاء و توقيف أزيد من 20 جنرالا منهم المعارض و الموالي بسبب ممارساتهم المشينة ،و ماضيهم الغير ناصع ، كما تم نبش ملفات الفساد الأخرى بهذه المؤسسة كتورط بعض النافذين فيها بتهريب المخدرات .


لم يغير داديس من نمط حياته، فالرجل يعيش خارج دائرة البذخ و الترف التي كان يتقلب فيها صاحبنا أيام انقلابه.و لا يعرف (داديس ) عن قصر الرئاسة إلا ما تتيحه له نظرات خاطفة أثناء مروره بمحيط منطقة القصر فهو يدير عمله اليومي من داخل معسكر آلفا يحي جالو .كما لم ينس داديس حياة الشظف التي عاشها في كنف أسرته الفقيرة في منطقة أنزيري كوري ، كما يروي أحداث طفولته البائسة بكل صراحة و دون عقد لمن يسأله عنها من أصحاب مهنة المتاعب .


داديس ظل محتفظا ببزته العسكرية ،و لم يكن يكترث فى خوض الجدل حول ما إذا كان ما قام به إنقلاب أم "حركة تصحيح" أو "ردة فعل"كما هو ديدن كل إنقلابي عسكري طامح "للإنخراط في السلك المدني و السياسي " .
فتح داديس وسائل الإعلام الرسمية أمام المواطنيين بعد عقود من التدجين ،والتوجيه.كما رفع شعار حرمة أرواح و دماء الغنيين ،لاعنا الأيام النحسات التى سقط فيها عشرات الغينين برصاص الجيش و السلطات الأمنية في مظاهرات الغلاء المعيشي التي شهدتها البلاد في آخر أيام كونتي.

إرادة الإصلاح التي أظهراها داديس- تقية- خففت عليه ضغط الخارج المتربص بلإنقلابيين لأن جميع القوي الداخلية حمته و شدت من أزره و أحسنت الظن به كمخلص طال إنتظاره.فالشعب سرعان ما صدق كلام داديس ،لأن التجربة الإفريقية في الإنقلابات تؤكد في معظم الأحوال أن الضباط ذوي الرتب المتوسطة في الجيش أكثر صدقا في وعودهم و تعلقا بشعاراتهم ،فهؤلاء في الغالب مجموعة من الشباب المكتوين بظلم أصحاب النياشين الكبيرة،و الغيورين علي أوطانهم ، و الراغبين في تغير أحوال شعوبهم . فمثلا النقيب الغاني جيري راو لينج عندما وصل السلطة في بلاده حارب الفساد مبتدئا بقطع رؤوس المفسدين الكبار من الجنرالات في غانا ، ثم قام بتطهير الأجهزة العسكرية و الأمنية من جيوب الفساد قبل أن يأتي الدور علي المرافق الحكومية الأخرى. و عندما قال الدستور كلمته لا لمأمورية ثالثة لراو لينج ترك النقيب السلطة بنفس راضية دون تلويح لا بتأويل الدستور و لا بتعديله ،أو تعطيله. كما أن الرئيس البركينابي الراحل النقيب توماسانكري الذي لازال الشعب البركينابي يحن لأيام حكمه لم يكن إلا ضابطا من ذوي الرتب المتوسطة.

السيناريو الموريتاني الذي سمح للعسكر بالترشح في إنتخابات يوليو الماضي ،يبدو أنه غير من أجندة كبير قادة إنقلابي كوناكري ،فبدأ الرجل يلمح إلى إمكانية ترشحه ،ثم سرعان ما أفصح عن نيته البقاء في السلطة .و أصبح الرجل الذي كان يتصنع المزاج الكسي ،ذو مزاج سيئ متشنج .

و هكذا بدأ داديس ترتيبات إخراج إعلان ترشحه على الطريقة الموريتانية ،فأطلق الكثير من المبادرات المنادية "ببقاء موسي داديس" في السلطة ،و أوعز بإنشاء سيل من الأحزاب و الجمعيات الموالية ،و بدأت رسل نظام كوناكري تجوب العواصم الإفريقية الصديقة بحثا عن الإستشارة و طلبا للإستخارة ،و أوكل داديس مهمة إدارة الصفقات مع فرنسا إلى وزيره للدفاع و أحد أقرب مقربييه سكوبا كوناتي و هو ضابط برتبة ولد الغزواني.أما على المستوي الداخلي فبدأت الطغمة العسكرية فى إسكات و تحييد كل من يقف في وجه بقائها في السلطة ، فالإعلام تم تشديد الرقابة عليه ،وحظر عليه الخوض في قضايا السياسة إلا ما تعلق منها بتلميع صورة داديس و صحبه ، كما تم القضاء علي برامج البث المباشر بموجب مرسوم وزاري" حتى إشعار جديد"،أما التظاهرات التى كانت أيام التأييد الموضة السائدة ،فهي اليوم محرمة لأنها تجلب "الأعمال التخريبية للبلاد" و تمس من "الأمن و السكينة العامة".

وتفتقت عبقرية منظري تمجيد حاكم كوناكري الجديد عن مفردات حديثة في قاموس تأليه الحكام لم يألفها الشعب أيام عزة الشيخ توري ولا أيام قوة لانسانا كونتي .فظهرت طبقة سياسية "جديدة" -و موالية طبعا- تري أن الشعب لم ينضج بعد وأن الطبقة السياسية "القديمة" مفلسة و غير مأتمنة على تسيير مصالح العباد ،و أن بنية الجيش مترهلة وأن الدستور ليس فيه ما يحرم على من خلع بزته أن يترشح فالمرحلة تتطلب "رجلا قويا مهابا" و هذه الصفات لا يتمتع بها إلا "الرئيس داديس".


داديس أظهر يوم الإثنين الماضي أنه في سبيل السلطة كل شيئ هين و رخيص حتى ولو كانت دماء أبناء شعبه ،دماء لم يتردد في إراقها و بوحشية لا لشيئ إلا لأن الآلاف من القوي الحية الغينية رفعوا شعار التحدي و خرجوا للتعبير السلمي عنه ،مسلحيين بعزيمة الوقوف في وجه سرقة الأمل ،الذي بات في دائرةالإجهاز عليه من قبل داديس.مجازر الأثنين تؤكد كم كان غلاة تيار دعم ترشح داديس صادقين عندما رفعوا شعار "داديس أو الموت".كما تؤكد كم هو داديس مستعد لدفع فاتورة الكرسي الرئاسي حتى و لو كانت تكلفتها عشرات الجماجم و الجثث كما حال كل عسكري متعطش لحرب الشعب رغما عنه.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!